Thursday 28 August 2014

السبع وصايا: تفاحة سيد المحرمة



١

بالرغم من مرور أكثر من خمسة عشر عاماً، لا أزال أذكر حلقة مدبلجة مدتها عشرون دقيقة من مسلسل أمريكي للرسوم المتحركة. الحلقة تدور حول مجموعة من الصبية الذين يلعبون الكرة بالقرب من سور بيت قديم.

خلال اللعب يخطئون في قذف الكرة وتهبط خلف سور البيت القديم. يتطوع أحدهم للذهاب لاسترداد الكرة. لكن أقرانه يحذرونه من أنه سوف يختفي كما اختفى صاحبهم القديم "سامح" عندما ذهب لاسترداد الكرة التي سقطت خلف سور البيت القديم ولم يعد. يشعر الصبي بالخوف. يتراجع عن الفكرة. في اليوم التالي يتكرر الأمر، ويتكرر التحذير. في اليوم الذي يليه يقرر الصبي الذي لم يقابل سامح ولم يكن حاضراً واقعة اختفائه، أن يسترد الكرة. يذهب الى بوابة السور المخيفة. يتخطاها. يصل الى باب البيت. يبدأ بالطرق. يظن أن البيت مهجور. يفتح باب البيت ويقابله ظلامٌ دامس. تظهر من بين الظلام سيدةٌ عجوز معها شمعة.

تسأله السيدة: أنت جيت ليه؟ يجيب وهو يرتعد: علشان أجيب الكرة. تخبره: أنا عندي كور كتير جوة. ادخل خد اللي أنت عايزه. بعد تردد يذهب لأخذ كرة، ويهم بالخروج من البيت. لكن السيدة تسأله بطيبة: أنت مش عايز تشرب عصير؟ ثم تقوم وتحضر له عصيراً ويبدو من حديثها أنها سيدة طيبة، حيث تطلب منه أن يذهب ويحضر أصدقائه ليلعبوا بالكرات الكثيرة الموجودة في منزلها.

ينجح الصبي في إقناع أصدقائه بالدخول. يفاجأون بكرم وطيبة السيدة العجوز.

خلال لعبهم، تنتقل الكاميرا الى وجه السيدة العجوز وهي تقول بصوت خافت: فكروني بالواد سامح!

وتنتهي الحلقة.

لا أحد يعلم ما الذي حدث لسامح. هذا متروك لخيال المشاهد. المهم أن صناع هذه الحلقة استطاعوا بناء حدث في خيال المشاهدين، وتركوا المشاهدين يتخبطون بين الإحساس بالخوف من السيدة العجوز، ثم الإحساس بأنهم ظلموها، ثم العودة الى هذه النهاية المفتوحة.

البطل هنا هو خيال المشاهد نفسه!

٢

في الحلقة الأولى من مسلسل السبع وصايا، نتعرف على سبع إخوة. بوسي، الأخت الكبرى. محمود، صبري، منصف، إم إم، مرمر وهند.

سبع شخصيات متباينة في مدى التزامها الأخلاقي والديني. منهم من يعمل خادما لمسجد. ورعٌ وتقي. ومنهم من يحترف الجريمة. بلطجي للإيجار!

في الحلقة الأولى تقنعهم بوسي بأن أبيهم لديه في البنك ثمانية وعشرين مليوناً من الجنيهات. ليس من المهم معرفة كيف جمع المال. لكن من المهم أن تعلم الأشياء التالية: هذا الأب قاسٍ وبخيل. لم يكن أباً حنوناً أو رحيماً. هو في غيبوبة لم يفق منها منذ ست سنوات.

الحل الذي تطرحه بوسي هو قتله كي ينعم كل ابن وابنة بنصيبه من الميراث. يستيقظ "سيد نفيسة" من غيبوبته فجأة ويشتم أبناءه ويطلب من بوسي محاميه. يبدو أن يخطط لمنع أبنائه من التمتع بثروته. يعود الى الغيبوبة مرة أخرى. تدخل بوسي الى غرفته وتنزع عنه المحلول الذي يبقيه حياً. يموت سيد نفيسة في فراشه الذي لم يغادره منذ ست سنوات.

أثناء مظاهر الحزن المفتعل، تنتقل الكاميرا الى باب غرفة سيد نفيسة المفتوح لنشاهد سريره وقد خلا من جثة سيد نفيسة!

تنتهي الحلقة الأولى.

من سيشاهد الحلقة الثانية فإنه سيكون مثل من شاهد حلقة "فكروني بالواد سامح".. سيكون قد وقع عقداً مع صناع العمل بأن العقلانية والمنطق هما فعلٌ جانبي لحدوتة أكثر غموضاً ورمزية مما تبدو عليه!

منذ تلك اللحظة وحتى المشهد الأخير في الحلقة الثلاثين والسؤال هو: كيف اختفت جثة سيد نفيسة؟

لكن المشاهد يكتشف أن اختفاء جثة سيد نفيسة وعودتها المرهونة بتنفيذ الوصايا، ليست هي الهدف من الرحلات المرهقة للإخوة السبعة. لكن الهدف هو فك شيفرات الرموز التي تتجسد في الأب الغائب جسداً والحاضر في أحلام أبنائه. تتجسد في الوصايا التي لا يقبل تنفيذها الجدل، لكن تقبل التأويل!

تبلغ الرمزية ذروتها في مشهد محاكاة لوحة "العشاء الأخير" في الحلقة التاسعة والعشرين، وفي سؤال الأخوة وهم يحتضرون لبوسي، الابنة الوحيدة التي يشعر معها الأب أنها من صلبه، "قتلتينا ليه يا بوسي؟"، فتأتي إجابتها بكل ما تحمله من يقين: "وصية أبويا ولازم أنفذها." لكن صبري هو يهوذا الحدوتة! خان بوسي ولم ينفذ وصيته.

هناك طريقتان إذن للتعامل مع "السبع وصايا" كعمل فني. الطريقة الأولى والتي وقع في أسرها المشاهدون حتى الثلث الأخير من المسلسل، هي تناول التفاصيل والأحداث بشكلها الظاهري والانشغال بما هو منطقي منها أو البحث عن إجابة عقلانية لظواهر ميتافيزيقية.

أما الطريقة الثانية فهي عدم مشاهدة الحلقة الأخيرة، والتوقف عند الحلقة التاسعة والعشرين، ثم الرجوع بالذاكرة الى بعض مشاهد العمل للتأكد من أن المسلسل لم يكن مجرد حدوتة عن ميت يبتز الأحياء برجوع جثته، وإنما عن تصور أدبي للقدر وأزمة الإنسان بين ما هو مخيرٌ فيه وما هو مسيرٌ إليه، وعن أشياء أخرى أعمق..

٣

بعد سنوات من الآن سينضم مسلسل "السبع وصايا" الى كلاسيكيات الدراما. ستعود إليه أجيالٌ قادمة من المشاهدين لإعادة اكتشافه. سيتوقفون عند موسيقى هشام نزيه، والحضرات الصوفية. سيبحثون عن الرموز المرئية التي وظفها ببراعة خالد مرعي. سيقرأون السيناريو والحوار مطبوعاً ويحللون مشاهد بعينها.

ربما سيتجادلون في شبكات التواصل الاجتماعي حول من هو ممثلهم أو ممثلتهم المفضلة في هذا العمل. وسيجمعون على أن بوسي (رانيا يوسف) أتقنت أداء دور شديد الصعوبة، وأن مرمر (ناهد السباعي) أدت دوراً مركباً ومدهشاً. ثم سيشيدون بأداء إم إم (هنا شيحة) وزوجها أحمد عرنوس (وليد فواز)، وسيحزنون على قصة حبهما الأليمة. وبالتأكيد لن يكفوا عن الإعجاب بالأداء المذهل لأوسة (سوسن بدر) في هذا العمل، أو الانبهار بصوت وأداء سيد نفيسة (أحمد فؤاد سليم). صبري (شاهين) ومحمود (صبري فواز) ومنصف (هيثم زكي) ودلال (نسرين أمين) وماجدة (شيرين الطحان) وشحاتة (ابتهال الصريطي) وإسعاد (ألفت إمام)، سيكون لهم نصيبٌ من الإعجاب والإشادة.

لكن انبهار الأجيال القادمة من المشاهدين بالعمل سيظل طازجاً كما هو اليوم. فالمسلسل لم ينشغل بالأحداث السياسية الجارية. وإنما جعلها مجرد إطار زمني لأحداث العمل. فنحن نعلم من خلال بعض الجمل الحوارية أن الأحداث تجري بعد ثورة يناير ٢٠١١، وأنها تمتد لما بعد عزل مرسي من الحكم. لكن لا ينشغل المسلسل بإظهار الانتماءات السياسية لأبطال العمل ولا مواقفهم مما يجري في المجتمع. هذا ليس موضوعه. فالمجتمع في المسلسل هو الأخوة السبعة. وهذه هي القراءة وفق الطريقة الأولى. أما لو كنت ممن يفضلون قراءة العمل وفق الطريقة الثانية، فإن المسلسل سيأخذك الى تلك المنطقة التي ربما ستفضل اجتنابها!

٤

حيرجع.. حيرجع.. هو راجع! ... فكروني بالشيخ سيد!

Saturday 19 July 2014

غزة: معضلة كرة النار


غزة: "كرة النار". تعبيرٌ قد يلخص جانباً رئيسياً من معضلة قطاع غزة. والتعبير يستند الى فكرة عبر عنها الإسرائيليين كثيراً وبصيغٍ مختلفة وهي: نريد التخلص من غزة للأبد. لا نريد أي مسؤولية تجاه القطاع أو سكانه. لا نريد أن نتعامل مع القطاع. لا نريد أن يكون لنا وجود عسكري أو استيطاني في القطاع!

رئيس الوزراء الاسرائيلي الراحل إسحاق رابين في الثمانينات وفي ذروة الانتفاضة الفلسطينية كان يردد عبارة: أريد أن أستيقظ في الصباح فأجد غزة قد أبتلعها البحر! لذا لم يكن قرار اسرائيل بالانسحاب من غزة عام ٢٠٠٥ وتفكيك المستوطنات فيها، مفاجئاً لمن تابع تصريحات السياسيين الإسرائيليين.

في أعقاب الانسحاب الاسرائيلي من غزة فاتح مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون الرئيس المصري السابق حسني مبارك في مسألة أن "قطاع غزة مكتظ سكانياً ومستوى المعيشة فيه يدفع سكان القطاع الى العنف وأن الحل هو توسيع القطاع مقابل استثمارات دولية في شمال سيناء"، ما يعني عملياً نقل إدارة القطاع أمنياً الى مصر والعودة الى أوضاع ما قبل حرب ١٩٦٧. 

رفض مبارك الاقتراح الاسرائيلي الامريكي المشترك، ورفضته الفصائل الفلسطينية في غزة وأهمها حماس والجهاد الاسلامي، ورفضته منظمة التحرير الفلسطينية. وذلك لأن الاقتراح يهدف الى نقل مسؤولية غزة الأمنية والمعيشية لمصر وهو ما يعني تصفية القضية الفلسطينية الى الأبد، ويعني أيضاً أن جهاز الأمن المصري الذي بالكاد يستطيع تأمين أرواح جنوده في سيناء سيكون مسؤولاً عن أمن قطاع غزة وعن أمن حدود القطاع مع إسرائيل! لكن المعضلة المصرية كانت تتمثل في السؤال التالي: كيف تبقي غزة مشكلةً لإسرائيل دون أن تساهم في قتل الناس؟ كانت الإجابة هي أن غضت مصر الطرف عن حفر الأنفاق بين غزة وسيناء وفي نفس الوقت أبقت معبر رفح مغلقاً.

دفع الفلسطينيون المقيمون في غزة ثمناً إنسانياً باهظاً حتى مع وجود الأنفاق. وكانت إسرائيل تتعمد استغلال أي ذريعة لضرب غزة بشكل وحشي وهمجي من البحر والجو وعبر التوغلات البرية. في المقابل كانت إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً من سمعتها الدولية ومن أرواح جنودها في كل عملية توغل بري. 

تم خلع مبارك وجاء المجلس العسكري للحكم. لكن مسؤولية ملف غزة ظلت مع المخابرات العامة والتي ساعدت في التوصل لاتفاق مصالحة بين فتح وحماس. وكعادة المرات السابقة، تم الاختلاف لاحقاً ولم يمض الطرفان الفلسطينيان قدماً في خطوات المصالحة.

إسرائيل تريد التخلص من عبء غزة. لا تريد بمن يذكرها أنها دولة محتلة. ومصر لا تريد أن تكون مسؤولة أمنياً واقتصادياً وإدارياً عن قطاع به أعلى كثافة سكانية في العالم. وحماس تشكك في نوايا فتح. وفتح لا تصدق تعهدات حماس. وفيما حماس تحظى بدعم قطر وتركيا وإيران، تحظى فتح بدعم مصر والسعودية والإمارات والأردن. وبين الرعاة الإقليميين لحماس والرعاة الإقليميين لفتح معارك لم تنتِه، وجبهات مفتوحة، وحسابات لم تغلق!

وبينما تبدو غزة ككرة نار ملتهبة يتقاذفها الجميع، يدفع سكانها الثمن الأكبر من خلال الحصار الذي جعل قطاعهم السجن الأكبر في العالم!

لكن ماذا عن المقاومة؟

تعقيد الحالة الفلسطينية لا يترك للمقاومة الكثير كي تفعله. فالحركتان الأكبر على الساحة الفلسطينية منشغلتان بصراع على السيطرة والحكم. ويزداد الأمر تعقيداً عندما يتم توظيف المقاومة لخدمة مصالح إقليمية سواء في ملف الصراع السياسي المصري/الإقليمي مع الإخوان، أو الملف النووي الإيراني، أو خدمة طموحات إقليمية!

لا توجد جيوش عربية نظامية مستعدة للقتال أو للمساعدة في إمداد فصائل المقاومة بالسلاح. جميع الجيوش العربية إما منشغلة بصراعات داخلية أو متورطة في صراعات بين أجنحة السلطة على ترتيبات داخلية تتعلق بمستقبل الحكم في دولها.

أما على مستوى الداخل الفلسطيني فإمكانيات المقاومة الفلسطينية لا تسمح لها بتغيير ميزان القوى مع إسرائيل ولا تسمح لها بأكثر من إطلاق صواريخ بدائية الصنع، لا تلحق ضرراً مؤثراً يجبر إسرائيل على تقديم تنازلات جوهرية فيما يتعلق بحق العودة أو إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس.

لا تملك المقاومة الفلسطينية في غزة ما يمتلكه حزب الله من دعم مالي غير محدود من إيران وترسانة مؤثرة من الصواريخ والأسلحة التقليدية، ومساحة للتحرك بحجم لبنان. لذلك كان قادة حماس في كل مرة يوافقون على مبادرات لوقف إطلاق النار مع إسرائيل تتضمن هدنة لمدد تصل الى خمس سنوات (كما في مبادرة مرسي عام ٢٠١٢) في مقابل فتح المعابر بين غزة وإسرائيل.

ومع معرفة قادة حماس والفصائل الفلسطينية في غزة بمحدودية إمكانيات المقاومة، ومعرفة حلفائهم الإقليميين بذلك، يتم التعامل مع المقاومة كورقة ضغط إقليمية. وفي كل مرة يتم التوصل لهدنة، تتعهد حماس بضمان هذه الهدنة وتمنع بقية الفصائل من إطلاق أي صواريخ على إسرائيل، وذلك ليتحقق هدف إسرائيل الأهم من اتفاق أوسلو وهو تأرجح الفلسطينيين بين حالة اللاسلم واللامقاومة واللادولة. فقط الحصار والمزيد من ضربات العقاب الجماعي وقتل المدنيين!

ماذا عن مصر؟

لا أحد يحسد مصر على وضعها الآن! فمصر الرسمية تحت حكم الرئيس الجديد عبد الفتاح السيسي تبدو في تعاملها مع ملف غزة فاقدةً للنضج الذي تمتعت به مصر تحت حكم مبارك! مفارقة مزعجة وصادمة لكنها منطقية. فمصر الرسمية التي تخوض حرباً مفتوحة مع جماعة الاخوان، تنظر لحماس باعتبارها جناح الاخوان في غزة، والحركة التي "تآمرت على مصر وقتلت جنوداً مصريين في سيناء". لكن مصر الرسمية لا تقدم الوثائق أو الأدلة التي تثبت ذلك، بل تكتفي بترديد هذه القائمة من الاتهامات عبر موظفيها في أجهزة الاعلام المحلية.

كما يتجلى عدم نضج مصر الرسمية في فشلها على الإجابة عن المعضلة التي واجهت مصر تحت حكم مبارك وهي: كيف نبقي غزة مشكلةً لإسرائيل وفي نفس الوقت لا يموت الفلسطينيون جوعاً، ونحافظ على احتكارنا لملف غزة أمام المجتمع الدولي؟

أما مصر الشعبية فتتأرجح بين خطاب معادٍ للفلسطينيين موروث من الحقبة الساداتية وشعارها الأشهر "مصر أولاً"، وبين خطاب يعتبر أن ما يجري في غزة شأنٌ داخلي بين حماس وإسرائيل لا دخل لمصر فيه. ويبني هذا الخطاب موقفه على أن مصر ليست مستعدة للدخول في أي مغامرات عسكرية وأنها منشغلة بأوضاع داخلية شديدة الصعوبة. لكن هذا الخطاب يفشل في إدراك أن أمن مصر مرتبط بما يجري في غزة بنفس قدر ارتباطه بما يجري في ليبيا وفي السودان.

وفي ظل ارتباك مصر، وانشغال العالم العربي بحروبه الأهلية، لا يبدو أمام المقيمين تحت سماء غزة الكثير من الخيارات أمام آلة عسكرية لا تتردد لثانية عن قتل أطفال أو مدنيين أو قصف مستشفيات، طالما أن الفاعلين في المجتمع الدولي لن يتدخلوا قبل أن تتخطى حصيلة القتلى الحصيلة الماضية!

Friday 28 March 2014

الجيش والسياسة، شرعية الرئيس القادم.. علامات استفهام



في أعقاب حرب ١٩٥٦ أدرك الرئيس جمال عبد الناصر أن وزير الدفاع عبد الحكيم عامر قائد عسكري فاشل ولا يستطيع التصرف في ميادين القتال. أشرف عبد الناصر بنفسه على خطة انسحاب منظمة لقوات الجيش المصري من سيناء وإعادة تمركزها في بورسعيد للتنسيق مع المقاومة الشعبية في المدينة من أجل مواجهة فرق المظليين البريطانية.

لكن غلطة عبد الناصر كانت في أنه ترك عبد الحكيم قائداً عاماً للقوات المسلحة وذلك خوفاً من أن يأتي قائد عام آخر لا يتمتع بنفس الثقة. كانت تلك من أخطاء عبد الناصر الكبرى والتي دفعت مصر ثمناً باهظاً للغاية بسببها. كانت فكرة عبد الناصر أن أي قائد آخر للجيش لا يحظى بثقة تماثل ثقته في عبد الحكيم، قد يكون باستطاعته القيام بانقلاب عسكري على غرار ما حدث في الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٥٢. فما جرى في تلك الليلة كشف للضباط الشباب الذين قاموا بما سموه حينها "حركة الجيش المباركة" أن السيطرة على الحكم في مصر أمر شديد السهولة بالنسبة لمن يسيطر على الجيش، وهي القاعدة التي لاتزال سائدة حتى اليوم والتي حاول رؤساء الجمهورية منذ عبد الناصر وحتى مرسي مقاومتها عبر التأكيد على مفهوم إخضاع الجيش لـ"شرعية الرئيس".

في كتاب حازم قنديل الذي نشر بالانجليزية وعنوانه "جنود، جواسيس، ورجال دولة" هناك فقرة حول كيف قام عبد الناصر عام ١٩٥٣ باستبعاد العناصر التي يمكن أن تشكل تحدياً له داخل القوات المسلحة. كانت فكرة ترتيب الأوضاع في الجيش عملاً ضرورياً من أجل استمرار الحكم الجديد.

انتقلت مصر من سنة ١٩٥٦، والتي كشفت ضعف عبد الحكيم في الأمور العسكرية، الى سنة ١٩٦١ حيث وقع الانفصال عن سورية، وتبين لعبد الناصر أن الخلية المسؤولة عن الانفصال كانت مرتبطة بمكتب عبد الحكيم عامر. وبالرغم من ذلك ظل عبد الحكيم عامر، برغم مسؤوليته المباشرة عن فشل الوحدة، في منصب القائد العام.

جاءت حرب ١٩٦٧ وكانت الهزيمة المروعة للقوات المصرية خلال أيام نتيجة منطقية لجيش يقوده قائد مهتز وضعيف مثل عبد الحكيم عامر. وقد وصف بعض المؤرخين الطريق الى ١٩٦٧ بأنه كان نتيجة "صراع بين دولتين داخل وطن واحد"! هنا قرر عبد الناصر إزاحة عبد الحكيم عامر عن منصبه ووضعه تحت الإقامة الجبرية. بالرغم من ذلك استطاع عبد الحكيم عامر بما له من شعبية في الجيش أن يجمع عدداً من ضباط الجيش في منزله، وذلك من أجل التخطيط لانقلاب عسكري والإطاحة بعبد الناصر. وقائع هذا المخطط وكيف فشل، رواها فيما بعد أمين هويدي رئيس المخابرات العامة ووزير الحربية في كتابه الهام "الفرص الضائعة".

في أعقاب "انتحار" عبد الحكيم عامر، بدأ عبد الناصر في التنبه لخطورة دخول الجيش في الحياة السياسية أو المدنية. لذلك أصدر عدداً من القرارات لجعل وزارة الدفاع تابعة لمؤسسة الرئاسة وليست نداً لها، وأن لا تقوم بأي دور مدني أو سياسي أو حتى أي دور في حفظ السلم والأمن العام إلا بطلب من رئيس الجمهورية ولفترة محدودة على نحو ما حدث في أحداث ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧ أو أحداث الأمن المركزي في ١٩٨٦ أو مساء يوم ٢٨ يناير ٢٠١١.

ومنذ رحيل عبد الحكيم عامر وحتى إقالة المشير طنطاوي من منصبه كوزير للدفاع، كان كل قادة الجيش المصري يدركون خطورة أن يقوم الجيش بلعب أي دور سياسي من أي نوع. وكان لدى رؤساء الجمهورية المتعاقبين إدراك بحساسية وخطورة إقحام الجيش في أي معارك سياسية. قد يتم أخذ رأي وزير الدفاع في بعض المسائل المتعلقة بالأمن القومي ولكن لا يتم أخذ رأيه في تقسيم دوائر مجلس الشعب مثلاً أو في السياسة النقدية للبنك المركزي أو حتى في السياسة الخارجية طالما لن يؤثر ذلك على الأمن القومي.

ما حدث في الثامن والعشرين من يناير عام ٢٠١١ كان زلزالاً عنيفاً لأركان الدولة المصرية. ضرب الزلزال بعنف قلب هذه الدولة كما لم يحدث من قبل منذ إنشاءها قبل قرنين وفق رؤية محمد علي باشا. أدرك الجيش للمرة الأولى أن الجناح السياسي للنظام كان أضعف من أن يتم الاعتماد عليه في الحفاظ على الدولة. اختفى الحزب الوطني الديمقراطي كما اختفى الجيش العراقي فور دخول القوات الأمريكية الى بغداد. انهار حزب النظام خلال ساعات وتم حرق مقراته، وذلك في إجابة شعبية على عبارة مهندس الحزب أحمد عز حول "مستوى رضا المصريين المرتفع"!

تولى الجيش الحكم خلال فترة انتقالية صعبة، أثبت فيها قادته أن علاقتهم بالسياسة وإدارة شؤون الدولة منعدمة! لم يكونوا مؤهلين أصلاً للحكم ولم يكن أداؤهم سوى فشل تم تجسيده في كل الأزمات والصدامات الدموية العنيفة التي شهدتها مصر منذ تنحية مبارك عن الحكم وتولي مرسي للرئاسة.

خلال حكم محمد مرسي كانت هناك بعض الإشارات المثيرة للاهتمام في علاقة مؤسسة الرئاسة بالجيش. الأولى هي السهولة التي تمت بها إزاحة طنطاوي وعنان من الجيش ومجيء عبد الفتاح السيسي. الثانية هي أدوار الوساطة التي حاول السيسي أن يلعبها بين الرئيس وبين خصومه السياسيين. الثالثة كانت في استدعاء القوى السياسية للجيش من أجل عزل مرسي.

يروي البعض ممن كانوا على صلة بتلك الفترة أن الجيش كان يميل نحو إجبار مرسي على انتخابات مبكرة، لكن محمد البرادعي رفض هذه الفكرة بدعوى أنه قد تجاوزها الوقت وأنه لابد من عزل مرسي أولاً، لأنه بات يشكل خطراً على وحدة البلاد الداخلية وأن مرسي قد يكون سبباً في إشعال حرب أهلية. استجاب الجيش لنصيحة البرادعي وتم إعلان خريطة الطريق والتي تضمنت تعديل الدستور وانتخاب رئيس وبرلمان. قال البرادعي حينها أن السيسي أكد له عدم رغبته في الترشح لرئاسة الجمهورية. ثم أعلن السيسي في أكثر من خطاب أنه لا يريد حكم مصر حتى لا يقال أن الجيش تحرك من أجل السيطرة على الحكم. كان السيسي خلال تلك الخطابات مدركاً لخطورة إقحام الجيش في السياسة.

من قالوا أن عزل مرسي كان انقلاباً، كان يتم الرد عليهم بأن رئيس الجمهورية المؤقت هو رئيس المحكمة العليا. وأن وزير الدفاع لايزال وزيراً في حكومة لا يرأسها. كان الحفاظ على شكل وشرعية ما جرى مهماً للغاية، داخلياً وخارجياً. فوصف ما جرى في مصر "بالانقلاب" له تبعات إقليمية ودولية لا تستطيع مصر أن تتحملها. هذه ليست معركة استقلال وطني مثل ما جرى في ١٩٥٦ أو عدوان خارجي مثل ما حدث في ١٩٦٧ أو معركة تحرير أرض كحرب ١٩٧٣ ولكنها معركة لتأكيد "شرعية عزل رئيس استجابةً لطلب شعبي".

لكن تطورات الأمور فيما بعد أثبتت أن لا أحد يتعلم من الدرس الفادح الذي تعلمه عبد الناصر ووعاه السادات ومبارك! وسأتوقف هنا عند مشهدين كان لا ينبغي أن يتم التورط فيهما.

المشهد الأول: أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة في يناير الماضي بياناً تحدث فيه حول تركه لوزير الدفاع حرية التقدم بالترشح للرئاسة بالرغم من أن ذلك يعد إقحاماً للجيش في أمر لا يخصه. فطموح وزير الدفاع السياسي بعد تركه للخدمة في القوات المسلحة أمر يخص شخص وزير الدفاع والجهات المدنية التي تشرف على تنظيم عملية الانتخابات.

المشهد الثاني: خرج وزير الدفاع ببدلته العسكرية المموهة وألقى كلمة للشعب المصري عبر التلفزيون الرسمي للدولة، استمرت لربع ساعة، وأعلن فيه تقدمه بالاستقالة من منصبه والتقدم لخوض الانتخابات على المنصب التنفيذي الأعلى في البلاد. كما أعلن رغبته في بناء دولة ديمقراطية حديثة، وطلب أن يتم التوقف عن تشويه أو مهاجمة من يجد في نفسه القدرة على تحمل المسؤولية وخوض الانتخابات الرئاسية، وأنه سيظل حريصاً على أمن مصر "بل والمنطقة"! وتحدث حول الأعباء التي يواجهها المواطن المصري وحول التحديات التي تنتظر الدولة والشعب.

ملاحظات على المشهد الثاني والذي لم يكن من المفترض أن يحدث:

أولاً: كان من المفترض، ومن الضروري، أن يقوم وزير الدفاع بالتقدم باستقالته لرئيس الجمهورية. ثم يتقدم بأوراق ترشيحه للجنة العليا للانتخابات مثل أي مرشح مدني، سواء بخلفية عسكرية أو طبية أو هندسية أو غير ذلك. وكان من المفترض أن يقوم وزير الدفاع السابق بإعلان برنامجه السياسي الذي سيخوض به الانتخابات وهو يرتدي زياً مدنياً. أما وقد ارتدى بدلته العسكرية وأعلن عن طموحه السياسي من داخل مقر تابع للمؤسسة العسكرية، فقد أقحم الجيش فيما لم يكن من المفترض أن يكون طرفاً فيه. وهو ما سيؤثر على شكل العلاقات المدنية العسكرية في مصر خلال الأعوام القادمة.

ثانياً: جميع شهادات القادة العسكريين الذين عينهم عبد الناصر بعد هزيمة ١٩٦٧ أشارت الى أن أحد الأسباب الرئيسية للهزيمة هي التساهل في أن يلعب الجيش أدواراً في الحياة المدنية، وهو ما أدى الى عدم قدرته على الوفاء بالتزاماته العسكرية. وعندما أصبح الجيش طرفاً في الحياة المدنية والسياسية، أصبح قادراً على التفكير في الانقلاب على قائده الأعلى، مثلما خطط عبد الحكيم عامر مع عبد الناصر، أو مثلما كان يحدث بشكل دوري في سورية قبل وصول حافظ الأسد للحكم، أو في العراق قبل وصول أحمد حسن البكر ونائبه صدام للسلطة.

ثالثاً: عندما بدأت وحدات الجيش في الانتشار في القاهرة والمدن الكبرى مساء ٢٨ يناير ٢٠١١، استقبل الناس جنود الجيش بالهتاف: الجيش والشعب إيد واحدة. كان المقصود من هذا الهتاف هو أن يتم التفريق بين الجيش كمؤسسة ولائها للشعب وبين الرئاسة كمؤسسة تتعرض لغضب الشعب. لم يتعامل الناس مع الجيش في تلك اللحظة على أنه ذراع مبارك القمعية مثلما كانوا يتعاملون مع قوات الشرطة. لكن هذا الفصل أصبح صعباً. فقائد الجيش انتقل من مكتبه في وزارة الدفاع الى الترشح للرئاسة دون أي فترة انتقالية، يتولى فيها عملاً مدنياً مثلما حدث مع مبارك عندما عينه السادات نائباً لرئيس الجمهورية. أو السادات الذي كان رئيساً لمجلس الأمة ثم نائباً لرئيس الجمهورية.

رابعاً: خلال السنوات الثلاث الماضية كانت المؤسسة العسكرية تخضع لإرادة الشعب. لما زاد الغضب الشعبي على مبارك، لم تجد المؤسسة التي كان يرسم طياروها بمقاتلاتهم في السماء كلمتي "مصر مبارك"، لم تجد تلك المؤسسة أي مشكلة في إزاحة قائدها الأعلى عن السلطة. تكرر السيناريو مع محمد مرسي. ماذا لو تزايد الغضب الشعبي على الرئيس القادم؟

خامساً: لا توجد مشكلة في أن يتقدم وزير الدفاع للمنصب التنفيذي والسياسي الأعلى في الدولة إذا وجد في نفسه القدرة على تحمل المسؤولية. لكن يجب أن يتم ذلك وفق قواعد الحياة المدنية والسياسية التي تحفظ لمصر خصوصيتها كدولة ليست قبلية أو عشائرية. لذلك فإن ما جرى من دخول وزير الدفاع السابق الى الحياة السياسية تم ضمن أجواء "المبايعة الشعبية والتأييد"، لا ضمن أجواء التنافس الانتخابي. فقد أصبح الجميع يعلم الآن اسم الرئيس القادم. فما هو الهدف إذن من المنافسة مع مرشحين لن يشكلوا تهديداً حقيقاً لفرص وزير الدفاع السابق في الفوز. 

هذا كله يمثل شروخاً عميقة في شرعية الرئيس القادم.
  

Wednesday 5 March 2014

حزب الدستور: الطريق الى الفشل مفروش بالنوايا الحسنة


عن حزب الدستور، والبوب، وما حدث وما جرى وما ستؤول إليه الأمور:

1. البوب محمد البرادعي حبيبي. راجل برنس بصحيح. حسه الإنساني وضميره السياسي مهم ومفيد.

2. حزب الدستور مآله الفشل من أول ما تم تأسيسه على يد البوب ورفاقه (اللي كلهم بلا استثناء قلبوا الى أعدائه حاليا، ودة يقولك أد أيه الراجل دة كان حسن النية فيمن حوله!)

3. سبب فشل حزب الدستور هو إجابة السؤال الضروري والهام: ما هو حزب الدستور.. تحديدا ما هي الأيدولوجية أو الفكر الذي يستند إليه؟

إجابة البوب والمؤسسين في بدايات التأسيس، ولا تزال هي الإجابة الرسمية المعتمدة: الحزب هو مظلة لكل المصريين المؤمنين بأهداف ثورة يناير من عيش وحرية وعدالة اجتماعية.

من البيان التأسيسي للحزب:

"ومن هنا جائت فكرة حزب الدستور ... حزب يفتح أبوابه لكل أبناء الشعب، ولكل مدارس الفكر والعمل الرئيسية فيه ابتداء من الإسلام السياسى ومرورا بالليبرالية وانتهاء بالرديكالية الاجتماعية والاشتراكية، لتجتمع حول أهداف الثورة من أجل حمايتها من كل محاولات الخطف من ناحية ومحاولات تصفيتها من ناحيه أخرى."

هنا عدة أسئلة:

أولا: هو فيه مصريين مش مؤمنين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية؟ 

كل المصريين مؤمنين بيها وكل سكان العالم مؤمنين بهذه الاهداف. إنما المشكلة هو في التعريف. يعني رجال الأعمال بيعتقدوا إن العدالة الاجتماعية تعني إنهم يبنوا للفقراء مدرستين وجامع، بينما اليساريين بيتكلموا عن ضرائب تصاعدية، والرأسماليين بيتكلموا عن إن تحرير الأسواق يعني مساواة في الفرص للجميع وبالتالي عدالة أجتماعية أفضل.. يعني المشكلة هي في التعريف وليس في الشعارات. 

عيش، حرية، اجتماعية، هي شعار عظيم زي شعار الثورة الفرنسية: حرية، مساواة، إخاء. 

شعار يصلح كمظلة لأمة ولكن لا يصلح كفكر أو أيدولوجية لحزب سياسي ناوي يدخل الانتخابات وينافس تيارات أخرى لها ألوان فكرية محددة زي التيار الاسلامي أو التيار اليساري أو التيار الليبرالي أو التيارات اليمينية.

ثانيا: أنت لو سألت محمد مرسي ومحمد بديع عن ثورة يناير، حيقولوا أحلى كلام. ولو سألت المشير السيسي والمشير طنطاوي عن ثورة يناير، برضه حيقولوا أحلى كلام. المشكلة مش في الكلام. المشكلة في التغيير الحقيقي. هل فيه حزب ممكن يبنى على فكرة إن بيحب ثورة يناير؟

فريد الديب قال جملة عبقرية: الرئيس مبارك أول من دعا الى ثورة يناير!

يعني من الآخر ثورة يناير زي القرآن على أسنة الرماح.. حمالة أوجه!

4. سألت صديقة متحمسة لتجربة حزب الدستور: بما إن حزب الدستور هو مظلة للمصريين، ودة مش شيء يسمح له بإن يكون مميز عن أي حزب آخر، ما هو إذن حزب الدستور؟

كانت إجابتها: حزب الدستور هو ضمير البوب البرادعي!

يعني الحزب يتلخص في روح البوب. إذا كان سياسييين بحجم عبد الناصر والسادات ولهم تجربة في الحكم ومشروع لاتزال آثاره باقية، ومع ذلك فشل كل من ادعوا إنهم عندهم أيدولوجية أو فكر مستمد من تجربة عبد الناصر أو السادات. يعني مفيش حاجة اسمها ناصرية ومفيش حاجة اسمها ساداتية. رؤساء أتبعوا منهج التجربة، فأصابوا في أشياء وأخطأوا في أشياء، وكله ضمن عناوين عريضة ليها علاقة بامتدادات مصر الإقليمية وإرثها الاسلامي ودورها الافريقي.

مفيش حزب ممكن تبنيه حول شخص. لأن رحيل الشخص يعني بالضرورة وفاة الحزب!

5. حزب الدستور وتجربة البرادعي تتشابه للأسف مع تجربة حزب مصر القوية وأبو الفتوح.. مظلة لكل المصريين ومحاولة لاستقطاب الكل، ينتج عنها فشل في أي استحقاق انتخابي!

6. حزب "مظلة لكل المصريين" ينفع يكون حزب ناجح جدا في هولندا. حيث الانتماء الى طائفة المصريين هو الأساس اللي الحزب قايم عليه. ولكن حزب لكل المصريين في مصر، يبقى عامل زي الحزب الوطني الديمقراطي اللي جمع الشامي والمغربي على مجموعة من المصالح بدون أي أفكار أو أيدولوجية وبالتالي كانت النتيجة إن الحزب انهار أسرع من حزب البعث في العراق!

7. تحياتي للبوب وتقديري لضميره الوطني، ولكن الضمير ما ينفعش يبني حزب. الأحزاب تؤسس وفقا لأهداف واضحة ولون أيدولوجي محدد، وبرنامج اقتصادي له ميل فكري نحو اليمين أو اليسار. لكن شغل "بالحب اتجمعنا" ممكن يعمل دورة ألعاب أفريقية ناجحة، بس ما يعملش حزب يكسب انتخابات!

Sunday 19 January 2014

الميدان: لا ينصح بمشاهدته لمن آمنوا بالحلم


"باتفرج على فيلم "الميدان". انا في الدقيقة ١٢. حسيت بنفس فرحة لحظة تنحي مبارك من ٣ سنين. دمعت. وبعدين قعدت أسب وأشتم وألعن في الفشل والخيانة".

دي اللي كتبته على تويتر وأنا باتفرج على فيلم جيهان نجيم "الميدان"، واللي استطاع من خلال مدته وهي ساعة وأربعة وأربعين دقيقة، إنه يقدم إجابة عن سؤال كنت عايز أكتب عنه تدوينة طويلة أو مجموعة تدوينات بعنوان "٣ سنوات بعد يناير.. ٣ سنوات من التخبط والفشل"..

هو في الحقيقة بعد الفيلم ما بقاش فيه داعي لكتابة التدوينة. ومفيش داعي للكتابة عن الفشل أو التخبط. التآمر على التغيير في مصر، من كل القوى، كان أكبر من قدرة الثوار اللي معندهمش أي خبرة. وهما حيجيبوا الخبرة منين طالما اتولدوا في عصر السيد الرئيس الفريزر محمد حسني مبارك؟!

تبقى مجموعة ملاحظات:

١. الفيلم فيه ٣ شخصيات رئيسية. أحمد حسن: ثوري، وفي الشارع على طول. خالد عبد الله: ممثل مصري اتربى وعاش في بريطانيا ورجع مصر لما قامت الثورة في يناير ٢٠١١ ورفض يسيبها وشاف الليلة كلها. مجدي عاشور: من الإخوان المسلمين وشارك في يناير ٢٠١١ ومحمد محمود ورفض يشارك في الاتحادية ولكن شارك في رابعة.
طبعا بيحصل حالة تعاطف لا إرادي مع الشخصيات الرئيسية دي، وبيحصل تعاطف أكبر مع صداقتها.

٢. الفيلم بيصور من أول ما الناس اتجمعت في الميدان في ٢٠١١ وخلعوا مبارك لحد خلع مرسي. نفس الشخصيات بتشوفها على مدار سنتين ونصف. بتشوفها تغيرت في طريقة التفكير. بتشوفها اتغيرت في الملامح. بتشوفها وهي بتكبر. وبتشوفها وهي بتتكسر كل آمالها وبتحبط. وأنت بتشوف كل دة بيحصلك إحباط وبتقوم تشتم وتسب وتلعن في اللي كان السبب.

٣. في حتت من الفيلم أنا كنت في مصر وكنت في نفس الأماكن وفي نفس توقيت تصوير المشاهد دي. أنا فاكر مثلا إن شوفت جيهان نجيم وهي بتصور الناس اللي وقفوا قدام الدبابات اللي بتحرس مقر أمن الدولة في لاظوغلي. وكنت في الميدان لما حصل الفض في مارس ٢٠١١. وطبعا حضرت ما قبل إعلان نتيجة مرسي وما بعدها.. وبعدها سافرت.
كل المشاعر الشخصية المتضاربة من أول يناير ٢٠١١ لحد فوز مرسي ثم خلعه، افتكرتها وأنا باشوف الفيلم. وبرضه قعدت أسب وأشتم وألعن!

٤. أول درس خدته في الجامعة: "الدول التي تمر بمراحل تحول ديمقراطي تمر باضطرابات عنيفة وردات الى الوراء وربما الى الديكتاتورية خلال السنوات العشر الأولى".. وإحنا لسة في السنة التالتة!

ولذلك فعبقرية الفيلم إنه بيوضح للمشاهد أمرين مهمين جدا: أولا: مسار التعلم القاسي والدروس اللي المفروض يكون استفاد منها المصريين خلال مراحل التحول الديمقراطي الطويلة والعنيفة. ثانيا: إن التغيير العميق اللي كان الكل منتظره من ثورة يناير وخلع مبارك، هو عملية مرفوضة من قطاعات في المجتمع ومن جماعات مصالح ومؤسسات، ترى إن التغيير حيغير شكل المعادلة السياسية والاجتماعية الحالية، واللي كانت سائدة على مدى عقود.

٥. أتمنى الرئيس القادم للبلاد، أياً كان اسمه، إنه يشوف الفيلم دة. الفيلم دة فيه تحذير مرعب: طوفان البشر، لا حد بيقدر يوقفه، ولا حد بيقدر يقف قدامه.


Thursday 16 January 2014

عبد الناصر: الصورة.. المشروع.. وإعادة الانتاج



بمناسبة ذكرى ميلاد عبد الناصر.. فيه مجموعة أسئلة من المهم التوقف عندها..

١. عبد الناصر لم يكن نبيا ولم يكن ملاكاً.. طب ليه الناس لسة فاكراه؟ ليه فيه ناس اتولدت بعد ما مات بعشرة وعشرين سنة، ولسة بتحبه بعنف؟ كمان ليه في ناس اتولدت بعد ما مات بسنوات كتير ولسة بتكرهه بشراسة وكأن الراجل لا يزال يحكم مصر؟؟

٢. ليه أجهزة الإعلام بتحاول إعادة إنتاج عبد الناصر الآن؟

بالنسبة للسؤال الأول فمن الممكن الإجابة عليه بجزء من حوار المذيع الأمريكي الشهير تشارلي روز مع الرئيس السابق مبارك..

تشارلي روز كان عمل خمس حوارات مع مبارك خلال التلاتين سنة اللي حكم فيهم مبارك. وبالتالي نشأت علاقة صداقة بينهم، لدرجة مرة تشارلي روز جاب لقطات مصورة في برنامجه على PBS ومبارك بيعمل له جولة في قصر الاتحادية الرئاسي.. 

بعد وفاة حفيد مبارك، كان فيه إشاعات إن مبارك مش قادر يتحمل الصدمة وإنه أصبح في عالم آخر.. علشان الرئاسة تنفي الرواية دي كلموا تشارلي روز ييجي القاهرة يعمل حوار مع مبارك.. الراجل جاء فعلا وعمل الحوار مع مبارك. كان من اللافت إن مبارك اللي بيتكلم انجليزي بشكل جيد جدا وعمل كل حواراته مع تشارلي روز بالانجليزي، اختار (أو تم الاشارة عليه) بأنه يتكلم بالعربي علشان يتحكم باللي عايز يقوله بشكل محكم. وبالتالي كان تشارلي يسأل بالانجليزي ومبارك يسمعه وبعدين يجاوب بالعربي والمترجم يترجم. معدا في حتة واحدة، مبارك خرج عن شعوره وجاوب بالانجليزي..

لكن السؤال الأهم في الحوار كان من تشارلي روز لما سأله:

Mr. President.. How the Egyptians will remember your legacy ؟

هنا مبارك سأله:

legacy ؟

فتشارلي روز أعاد صياغة السؤال بما معنا: بعد عمر طويل كيف تريد أن يتذكرك المصريون؟

فمبارك جاوب بالعربي: أنا اشتغلت خمسين سنة في العمل العام... وعملت كباري وأنفاق و... و...

وبدا أن مبارك لم يدرك معنى كلمة "إرث".. أو ربما تهرب من فكرة الإجابة عن كلمة "إرث"، تفادياً لاستفزاز المصريين!

نرجع للسؤال الأول وهو: ليه الناس لسة فاكرة عبد الناصر؟

هي الإجابة تتلخص في الإرث الذي تركه عبد الناصر.. فكرة المشروع الاجتماعي والاقتصادي اللي رفع طبقات واسعة من الناس من تحت خط الفقر الى سلم الطبقة الوسطى.

البلد في عهده كلها تقريبا كانت طبقى وسطى. الأغنياء في عصر الملكية نزلوا الى الطبقة الوسطى، والفقراء طلعوا الى الطبقة الوسطى. وبالتالي حصل ضرر لخمسة في المائة من المجتمع (وكان أحيانا يسمى بمجتمع النصف في المائة اللي كانوا بيمتلكوا كل ثروات مصر قبل ١٩٥٢) واستفاد من الحراك الاجتماعي والتوسع في التعليم ٩٥ في المائة..

هو الراجل كانت انحيازاته الطبقية واضحة جدا. رئيس جاي للفقراء. طبعا الأغنياء كرهوه ولا يزالوا.. منطقي.

لكن الراجل قبل ما يبدأ مشروعه الاجتماعي كان عمل مقايضة مع الناس. مفيش حريات ومفيش مشاركة سياسية غير وفق اللي هو يرسم سقفها، وفي المقابل فيه تعليم مجاني جيد وخدمات جيدة ومستوى معيشي معقول للكل. موافقين؟ أيوة موافقين.. طب على بركة الله.

السادات كان ذكي جدا وأدرك إن دولة خدمات عبد الناصر، مصاريفها أكبر من إمكانياته، فقرر يغير المعادلة.. عايزين تتكلموا، اتكلموا.. عايزين مشاركة سياسية... مفيش مانع. بس طبعا بدون المساس "بكبير العيلة" والالتزام "بأخلاق القرية يا همت يا بنتي".. لكن مفيش تعليم أو خدمات.. دة عصر الانفتاح والاستيراد والساعات السويسري والعربيات الألماني.. وفتح مخك يا حلاوة تاكل ملبن!

ومع مبارك.. القصة أعتقد معروفة!

فالناس اللي بترفع صور عبد الناصر دلوقتي هي ببساطة عايزة المعادلة بتاعته.. نسلمك يا حكومة حقنا في المشاركة السياسية مقابل تعليم جيد وخدمات جيدة وشغل محترم لعيالنا وعدالة اجتماعية بدون فلان اللي استولى على أراضي الدولة وفتح قنوات فضائية وعمل فيها ثوري.. أو علان اللي بيغسل أموال وبيتبرع بفلوس لأحزاب كرتونية علشان يبعد عن نفسه الشبهات. أو رجل الأعمال اللي استورد دم فاسد أو صديقه اللي معملش صيانة للعبارات فالناس ماتوا بالآلاف في البحر!

وأجهزة الإعلام التابعة للسلطة والمتربية في أحضان أجهزة الأمن، فاهمة الكلام دة، فبيتم تصدير صور عبد الناصر على اعتبار إن الحاكم القادم لمصر هو عبد الناصر الموعود.. 

لكن الكارثة إن الدولة مش حتقدر تعيد معادلة عبد الناصر تاني لأنها في كلمة واحدة: مفلسة.. والأخطر من الافلاس إن الدولة لا تتمتع بالكفاءة اللي تسمح ليها بتقديم خدمات جيدة أو النهوض بالتعليم أو تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال ضرائب دخل تصاعدية على الأغنياء.

وبالتالي وصلنا لمعادلة: حنجيب لكم عبد الناصر بس بدون مشروعه!

يعني قمع ومصادرة حريات بس مفيش تعليم أو شغل أو عدالة اجتماعية..

هل الفريق السيسي مدرك لهذا الكلام؟ في الحقيقة لا أحد يعلم ذلك سوى الله.. بكرة حانشوف لما يكون سيادته رئيس للجمهورية، أيه هو برنامجه الاقتصادي والاجتماعي..

لكن على العموم من خلال خطاباته وتسريباته وأحلامه، فالفريق السيسي أقرب لروح الرئيس الراحل أنور السادات.. يتمتع بأداء تمثيلي محبب الى النفس في خطاباته. دمه خفيف. عنده بوادر ما عرف عند الرئيس السادات بسياسة "الصدمات العصبية". اتكلم عن الدعم وأشار ليناير ١٩٧٧.. وإن شاء الله حانشوف أيام جميلة في عهده.. ومصر اليوم في عيد.