Saturday 9 March 2024

وحيد حامد.. ابن يوليو البار

شخصان فقط صاغا قواعد وطريقة حكيّ الحدوتة البصرية في مصر منذ السبعينيات؛ وحيد حامد في السينما وأسامة أنور عكاشة في الدراما التلفزيونية. أجيال من كتاب السيناريو والدراما اختاروا إما الالتزام بتلك القواعد أو التمرد عليها، لكن ظل تأثير وحيد حامد ظاهراً من خلال طريقته في كتابة جمله القصيرة القريبة من الواقع أو أسامة أنور عكاشة من خلال طريقته في كتابة جمله الطويلة الاستدراكية.

الاثنان كانا أبناء الريف. وحيد حامد جاء من قرية في محافظة الشرقية وأسامة أنور عكاشة جاء من طنطا في محافظة الغربية. ولد أسامة في عام ١٩٤١، بينما ولد وحيد في ١٩٤٤. في ٢٣ يوليو ١٩٥٢ تحركت وحدات من الجيش وسيطرت على الحكم. ما بدأ كانقلاب عسكري كلاسيكي، تبنى قانوناً للإصلاح الزراعي بعدها بشهور ثم تم إعلان الجمهورية وبدأت تظهر ملامح مشروع اجتماعي يهدف إلى زيادة حجم الطبقة الوسطى عبر إحداث حراك اجتماعي هو الأكبر منذ تأسيس الدولة مع محمد علي باشا قبلها بمائة وخمسين عاماً. خلال تلك السنوات تشكل وعيّ أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد. كانا أبناء تجربة مهتمة بصياغة شكل مجتمع جديد لديه اشتباك مع العصر والحداثة، حتى وإن أدى ذلك إلى الصدام مع التيارات اليمينية في المجتمع ومن بينها جماعة الإخوان المسلمين. لكن الانقلاب العسكري الذي تحول إلى ثورة بسبب تغييره العميق والمستمر في بنية المجتمع وشكل الدولة، لم يكن مهتماً بالحريات أو التعددية السياسية وهو ما مهد الطريق لهزيمته المفاجئة والهائلة في يونيو ١٩٦٧.

عندما بدأ وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة مسيرتهما الفنية في سنوات السبعينيات كانت الدولة قد قررت التحول من اقتصاد بملامح اشتراكية ومبادئ للحفاظ على الطبقة الوسطى ودعمها إلى اقتصاد رأسمالي في نسخته الأمريكية القائمة على الاستهلاك الدائم والكثيف لكل ما يمكن استيراده حتى ولو على حساب الصناعات الوطنية. كانت سياسة "الانفتاح الاقتصادي" التي تم أعلنها عام ١٩٧٥ بداية النهاية الرسمية لمشروع يوليو الاجتماعي وبداية عصر "أمريكي" جديد في مصر. تزامن ذلك مع انتقال مراكز الثروة المالية في العالم العربي إلى دول الخليج في أعقاب حرب أكتوبر ١٩٧٣ والتي تسببت في قفزة كبيرة في أسعار النفط. شهد وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة هجرة مئات الآلاف من المصريين إلى دول الخليج ثم تسلل القيم المتأثرة بالمذهب الوهابي السلفي إلى مصر.

الفراغ الذي تركه انهيار مشروع يوليو في ١٩٦٧، ثم موجات الهجرة إلى الخليج خلال النصف الأول من السبعينات، ساعد الجماعات الإسلامية على إطلاق مشروعهم الذي أسموه "الصحوة الإسلامية". دعمهم خلال تلك السنوات أحد ضباط يوليو الأحرار، الرئيس "المؤمن" محمد أنور السادات، والذي وجد في الجماعات الإسلامية حليفاً يعتمد عليه في محاربة التيارات اليسارية والناصرية المعارضة لسياساته الاقتصادية أو مساهمته في إطلاق العصر "الأمريكي" في مصر. تغير شكل المجتمع الذي ينتمي إليه أسامة ووحيد بعنف وبسرعة كانت مفزعة لهما!

وحيد والعصر "الأمريكي"

في أعمالهما خلال سنوات الثمانينيات كان الاثنان يقدمان نقداً قاسياً للفترة التي بدأ فيها إنهاء مشروع يوليو الاجتماعي. تلك السنوات التي رعت فيها الدولة مظاهر الفساد التي رافقت "عصر الانفتاح الأمريكي". اعتبر وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة تلك السنوات أحد أسباب صعود التيار الإسلامي. 

في عام ١٩٨٣ يحاكي وحيد حامد في فيلم "الغول" مشهد اغتيال السادات، عندما ينهال الصحفي عادل عيسى (عادل إمام) بالساطور على رجل الأعمال فهمي الكاشف (فريد شوقي). يبدأ مخرج "الغول" سمير سيف المشهد بلقطة لعادل عيسى وهو يقف خارج البرج الذي يحتوي مقر شركات فهمي الكاشف. يختار سمير سيف تصوير أحد أركان البرج من أسفل لأعلى، لترسم اللقطة شكل هرمٍ أسمنتي شبيه بهرم الجندي المجهول الذي يقع أمام منصة العرض العسكري يوم ٦ أكتوبر ١٩٨١، والذي تم دفن جثمان السادات أسفله بعد الاغتيال. يخرج فهمي الكاشف من الأسانسير مبتسماً مزهواً بنفسه وفي يده سيجار ويرتدي بدلة "سفاري" زرقاء اللون (ارتدى السادات يوم اغتياله زياً عسكرياً أزرق اللون، استمد تصميمه من بدل الضباط الألمان خلال الحقبة النازية!) وإلى جواره مساعده يوسف مهران (أسامة عباس) وخلفه وحوله حاشية من المساعدين. يعترض رجلا أمن عادل، فيقول: "كلمة واحدة يا بيه لو أمكن؟".

يشير فهمي بيده أن يتركوه ويقول: "سيبوه.. مشيرة شافتك وأنت كدة؟".

يتقدم عادل نحو فهمي ثم يقول: "ما دفعتش ليه الفلوس لعيلة مرسي السويفي؟"

فهمي: "أنت لسة ما حرمتش؟! ما كان من الأول. أنا مش شركة تأمين يا أخ عادل.. وعلى العموم الفلوس اتصرفت في القضية."

عادل: "حضرتك شوفت صورتك في الجرنال؟"

فهمي: "يعني.. ليه؟"

عادل يمسك بساطور كان يخفيه في جريدة مطوية ثم يقول: "أصل فيه صورة حتطلع لسيادتك في جرنال بكرة، مش حتلحق تشوفها!"

ثم ينهال عادل بالساطور على رأس فهمي، فيصرخ الأخير: مش معقول! (نفس العبارة التي قيل أن الرئيس السادات قالها عندما قفز خالد الإسلامبولي من عربة عسكرية تجر مدفع، توقفت فجأة خلال العرض العسكري وركض باتجاه المنصة ليرمي قنبلة يدوية. وقف السادات وصاح في البداية: ارجع يا ولد.. ثم بدأ خالد الإسلامبولي وعطا طايل وعبد الحميد عبد السلام في التصويب باتجاه المنصة التي كان يجلس فيها كل رجال الصف الأول من الدولة. سقط السادات وبدأ المحيطين به في رمي الكراسي نحو مكان سقوطه كي يحموه من وابل الرصاص) في الفيلم تختفي الحاشية التي كانت حول فهمي الكاشف ثم تظهر لقطة يرمي فيها رجال حاشيته ورجليّ الأمن بالكراسي نحو مكان سقوط فهمي!

اعترضت الرقابة على الفيلم وقالت في تقريرها الذي تم نشرها بعد ذلك "إن هذا الفيلم يعد مظاهرة سياسية مضادة للنظام القائم في البلاد ومعاداة لنظام الحكم ومؤسساته القضائية، واتهام بعض أجهزة الدولة بالتواطؤ مع الرأسمالية ضد مصالح الشعب، ويشجع بل يدعو الى الثورة الدموية ضد أصحاب رؤوس الأموال. كما تؤكد اللجنة ان هذه المعاني من شأنها التأثير بطريقة سيئة على عقول الشباب وتزعزع ثقتها في القضاء وغيره من أجهزة الدولة. كما تضمن المصنف بعض المشاهد والاحداث التي تبدو وكأنها نوع من المتاجرة ببعض الأحداث المحلية المتعاقبة والجارية على النحو الذي يصبغه بطابع سياسي على جانب كبير من الخطورة" وذلك في إشارة إلى مشهد قتل فهمي الكاشف ومحاكاة مشهد اغتيال الرئيس السادات!

يكرر وحيد حامد تجربة انتقاد النظام من خلال محاكاة "الأحداث المحلية المتعاقبة والجارية" عبر تجربته في فيلم "البريء" الذي عرض في صالات السينما عام ١٩٨٦، وذلك في نفس العام الذي شهد أحداث تمرد عشرات الآلاف من جنود الأمن المركزي ونزول دبابات الجيش إلى الشارع لفرض حظر للتجول وإنهاء الانفلات الأمني في شوارع القاهرة الذي استمر أسبوعاً! ينتهي الفيلم بمشهد لجندي حراسة في أحد المعتقلات أحمد سبع الليل (أحمد زكي) وهو يطلق الرصاص على ضباط وجنود المعتقل. 

في حوار على التلفزيون المصري تم إجراؤه قبل خمسة أشهر من وفاته، قال وحيد حامد إن الفيلم تم عرضه قبل أحداث الأمن المركزي وأنه تم إيقاف عرضه بعد توصية من المخابرات الحربية. ثم تم السماح بعرضه بعد اجتماع ضم وزير الدفاع المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة ووزير الداخلية أحمد رشدي ووزير الثقافة أحمد هيكل.

نقد من داخل التجربة

بالإضافة إلى معاركه مع مظاهر الفساد الذي رعته الدولة ومعاركه مع التيار الإسلامي، كان وحيد حامد يوجه نقداً للنموذج الخليجي في مصر، والتعامل معه باعتباره سبباً من أسباب انحطاط القيم ورافداً من روافد صعود التيارات السلفية التي عاد أفرادها من العمل في الخليج أو من القتال في حرب أفغانستان، لتبدأ المواجهة الدموية الطويلة بين الدولة وجماعات العنف خلال آخر سنوات الثمانينيات وسنوات التسعينيات. عبر عن ذلك في أعماله مثل مسلسل "العائلة" أو مسلسل "بدون ذكر أسماء" أو حواراته التلفزيونية.


كان أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد أبناء مشروع يوليو عندما شهدا سنوات صعود الطبقة الوسطى في الخمسينات والستينات، أو هزيمة المشروع في ١٩٦٧ أو انتهائه عام ١٩٧٥، وما تبع ذلك من صعود لرموز فساد يتمتعون بحماية سلطة الدولة بالتزامن مع صعود تيار الإسلام السياسي. لذا كان نقد أسامة أنور عكاشة لمشروع يوليو خلال حكم جمال عبد الناصر قاسياً في أجزاء مسلسله الأشهر "ليالي الحلمية"، وهو ما فعله أيضاً وحيد حامد في مسلسل "العائلة". لكن نقدهما كان من داخل التجربة وليس من خارجها. كان نقداً للدولة التي مهدت لانهيار المشروع وقررت إنهاء التجربة التي سمحت لهما بالحراك الاجتماعي والخروج من الريف إلى قلب الحركة الثقافية والفنية في العاصمة.

امتد النقد في أعمال وحيد حامد إلى كل ما يتعلق بالدولة في الثمانينيات والتسعينيات من تحالفات خارجية مع الولايات المتحدة والدول الخليجية أو نقد للأجهزة الأمنية وإن بطريقة مستترة مثلما حدث في أفلام "كشف المستور" و"اللعب مع الكبار" و"الإرهاب والكباب"، أو تحالفات السلطة مع رجال الأعمال مثلما حدث في "المنسي"،  في طريقة الحكم مثلما حدث في "معالي الوزير"، أو هيمنة حزب وحيد على السلطة وما يعني ذلك من تقاطعات مع جماعة الإخوان المسلمين مثلما حدث ببراعة في فيلمه الأهم "طيور الظلام"، أو حتى من خلال النقد الاجتماعي للفروق الطبقية التي ساهمت الدولة في صنعها مثلما حدث في فيلم "اضحك الصورة تطلع حلوة".

في فيلم "دم الغزال" يتعرض وحيد حامد لما حدث في الثمانينيات عندما سيطرت جماعة إسلامية متطرفة على إمبابة وأعلنتها جمهورية سلفية داخل الدولة! لاحقاً يعود وحيد حامد للجذور ويبدأ في التأريخ لجماعة الإخوان المسلمين من خلال جزئي مسلسل "الجماعة" والذي ركز في الجزء الأول على حسن البنا والتنظيم الخاص في فترتي الثلاثينيات والأربعينيات، وفي الجزء الثاني على الجماعة في سنوات الصدام مع الدولة خلال الخمسينيات والستينيات والدور الذي لعبه سيد قطب في صياغة خطابها الفكري الذي استمر بعد إعدامه.

لم يكن وحيد حامد مؤمناً ومدافعاً عن الديمقراطية في صيغتها الأشهر وهي تداول السلطة وإخضاعها للشفافية والمساءلة والرقابة، ولكن كان يحاول في أعماله الدفاع عن مفهومه للحريات التي تضمن شكلاً مدنياً للمجتمع، وعدالةً اجتماعية تسمح بالحراك الاجتماعي، كما حدث معه في الستينيات. لم يكن مهتماً بهوية مصر وما إذا كانت عربية أم متوسطية مثلما تناولها أسامة أنور عكاشة في مسلسل "أرابيسك"، لكنه كان مهتماً بالحياة المعاصرة في مصر وتحولاتها التي رآها انحرافاً عن شكل الحياة التي ظل يتحسر على غيابها في أعماله.



Wednesday 27 December 2023

حرب أكتوبر: خمسون عامًا على انتصار عبد الودود

الرئيس السادات يتفقد الجبهة قبل الحرب وخلفه الفريق محمد صادق والفريق سعد الدين الشاذلي

خمسون عاماً مرت على اليوم الذي عبر فيه ثلاثة وثلاثين ألف جندي مصري من الضفة الغربية لقناة السويس إلى الضفة الشرقية للقناة، حيث خط "بارليف" الذي كان يعده الإسرائيليون خط دفاعهم الأول في شبه جزيرة سيناء. 


خمسون عاماً من الاحتفالات السنوية بانتصار أكتوبر والتي اعتدنا فيها على مشاهدة لقطات من الغارات الجوية التي نفذتها المقاتلات والقاذفات المصرية على أهداف إسرائيلية في سيناء، متبوعةً بمشاهد لمئات قطع المدفعية وهي تمطر سيناء بآلاف قذائف المدفعية، ثم مشاهد عبور الموجات الأولى من الجنود المصريين في القوارب المطاطية، ليتم اختتام هذه الملحمة البصرية بمشاهد عبور الدبابات والمدرعات المصرية لسيناء فوق الجسور العائمة الممتدة بين ضفتي القناة.


خلال سنوات حكم مبارك كان الحديث عن حرب أكتوبر أمراً "سيادياً"! لم يكن من المستساغ حكومياً أن يجري نقاشٌ جاد بشأن نتيجة الحرب النهائية بعد وقف إطلاق النار في ٢٨ أكتوبر خلال مباحثات الكيلو ١٠١ على طريق القاهرة السويس، أو ما جرى بين الرئيس السادات ووزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر من اتفاقات في أسوان في يناير ١٩٧٤. 


لم يكن الإعلام المصري يتحدث عن ثغرة الدفرسوار إلا بشكلٍ مقتضب، كما جرى مثلاً في حديث لمبارك مع عماد الدين أديب داخل غرفة عمليات القوات الجوية قبل انتخابات ٢٠٠٥ الرئاسية، أو كما جرى في حوار أجراه المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، وزير الدفاع الأسبق وقائد مدفعية الجيش الثاني الميداني خلال حرب أكتوبر، مع مجموعة من الصحفيين عام ١٩٨٢.


في مرحلة ما بعد ٢٠١١ بدأ نقاش على وسائل التواصل الاجتماعي حول حرب أكتوبر ونتيجتها النهائية، خاصةً في ضوء محاولات إسرائيلية مستمرة لإظهارها كنصر عسكري لهم "لأنهم نجحوا في صد هجومين متزامنين على إسرائيل"، أو لأنهم "استطاعوا أن يحاصروا الجيش الثالث بعد عبورهم لغرب القناة"، أو لأنهم استعادوا تقريباً كل مناطق هضبة الجولان التي حررتها القوات السورية في الأيام الأولى من الحرب. 


انتصار أكتوبر وشرعية النظام


تعتبر السردية المصرية الرسمية والشعبية حرب أكتوبر انتصاراً كاملاً وشاملاً لمصر ومشهده الأعظم هو يوم العبور والسيطرة على خط بارليف. وتتجاهل ما جرى على الجبهة السورية، مثلما تتجاهل ما حدث بعد ١٤ أكتوبر وثغرة الدفرسوار وحصار الجيش الثالث. 


وخلال العقود الماضية، وتحديداً خلال سنوات حكم مبارك، تجاهلت السردية الرسمية قبول السادات بوقف إطلاق النار في ٢١ أكتوبر بعد أن أيقن أنه بات يحارب الولايات المتحدة وليس إسرائيل، وذلك في أعقاب الجسر الجوي الذي أقامته إدارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيسكون من أجل دعم القوات الإسرائيلية على الجبهتين المصرية والسورية. 


كما تجاهلت السردية الرسمية تفاصيل مراحل التفاوض التي جرت بين السادات وإسرائيل في أعقاب الحرب من أجل استعادة باقي أراضي سيناء بالتفاوض والتي ظلت تحت الاحتلال الإسرائيلي، حيث ضمت ١٢ مستوطنة ومطارين. وبالتالي لم يتم تحرير سيناء بالكامل خلال العمليات العسكرية في حرب ١٩٧٣، كما بات شائعاً في السردية الشعبية خلال سنوات حكم مبارك.


وبالطبع ركزت السردية الرسمية خلال سنوات مبارك على دور سلاح الطيران في افتتاح المعركة، واعتبرته "أول ضربة جوية فتحت باب الحرية". وفي الأوبريتات التي كانت تقام كل عام في ذكرى الحرب، كان قائد الطيران السابق والرئيس الحالي، آنذاك، حسني مبارك، هو صاحب الضربة الجوية التي ضمنت النصر لمصر.


اعتبر السادات حرب أكتوبر تجديداً لشرعية النظام بعد هزيمته في حرب ١٩٦٧. تحدث السادات في أعقاب الحرب عن "شرعية أكتوبر"، واعتبر أنه حان الوقت لجيل أكتوبر كي يستلم الراية من جيله. لكن في السنوات الأخيرة من حكمه، عاد السادات ودافع عن شرعية ثورة يوليو واعتبر التشكيك فيها تشكيكاً في شرعيته كرئيس، وهو ما ذكره في خطابه الأخير في مجلس الشعب في سبتمبر ١٩٨١.


لكن مبارك أتى للحكم وفي ذهنه شرعية حرب أكتوبر فقط. كان احتفاله بالثالث والعشرين من يوليو جزءاً من واجباته كرئيس لنظام جمهوري أنتجته ثورة يوليو ١٩٥٢. بينما حرص على أن يكون احتفاله بالسادس من أكتوبر احتفالاً شخصياً لإدراكه أن هذه الحرب هي التي أنتجت شرعية نظامه السياسي. ولهذا تم ربط إنجازه كقائد للطيران في الحرب بكل إنجازاته كرئيس. خططه للتنمية أو الاستثمار أصبحت عبوراً ثانياً بعد العبور الأول! رفع سقف الحريات في الصحافة (المسيطر عليها أمنياً) أصبح رمزاً لمعنى الحرية التي فتحت بابها الضربة الجوية.


كما تم التحكم في أسماء الأشخاص الذين سوف ينسب إليهم النصر. فخلال سنوات السادات ومبارك، خلت قائمة "صناع النصر" من اسم رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي. بينما حصل السادات ومبارك على النصيب الأكبر من الاحتفاء. وفي المرتبة الثانية جاء اسم القائد العام ووزير الحربية خلال الحرب المشير أحمد اسماعيل، ورئيس هيئة العمليات المشير محمد عبد الغني الجمسي، ومعه قادة الأفرع الرئيسية الآخرين مثل قائد الدفاع الجوي محمد علي فهمي.


رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة خلال الحرب اللواء محمد عبد الغني الجمسي


عالم ما بعد أكتوبر


لم يقتصر دور حرب أكتوبر على منح الشرعية لنظام سياسي بقيادة مبارك فحسب. وإنما صنعت هذه الحرب عالماً جديداً من التفاعلات في إقليم الشرق الأوسط. فبسبب القيود التي وضعتها الدول العربية النفطية على إنتاج النفط وبيعه خلال الحرب، ارتفعت أسعار النفط في العالم، وقفزت إلى مستوى سعري جديد بعد الحرب لم يكن متحققاً قبلها.


ارتفاع الأرصدة المالية للدول العربية النفطية بعد حرب أكتوبر أدى إلى انتقال جزء كبير من الثقل السياسي إلى عواصمها، وبدأت بعض الدول العربية النفطية في عقد تحالفات أعمق مع الدول الغربية أو في دعم حركات وجماعات حول العالم لتحقيق رؤاها السياسية.


كما مهدت الحرب لعقد اتفاق للسلام بين مصر وإسرائيل، وهو الأمر الذي تعود محاولات عقده إلى بداية الخمسينيات، عندما أرسلت إسرائيل عدة رسائل إلى عبد الناصر من أجل الوصول إلى تفاهم بشأن السلام. أولى هذه الرسائل كانت من بن غوريون إلى عبد الناصر وحملها النائب في مجلس العموم البريطاني ريتشارد جروسمان. رفض عبد الناصر الرسائل الإسرائيلية وقال لحامليها من المسؤولين البريطانيين والأمريكيين أن الأولوية بالنسبة له هو جلاء القوات البريطانية عن مصر. 


كما جرت محاولة أخرى عبر العالم اليهودي ألبرت أينشتاين، الذي تواصل مع عضو الوفد المصري لدى الأمم المتحدة محمود عزمي، ومن خلاله التقى أينشتاين محمد حسنين هيكل في ديسمبر ١٩٥٢، حيث طلب منه إخطار عبد الناصر برغبته في العمل كوسيط لعملية السلام بين مصر وإسرائيل. قام هيكل بتسليم الرسالة إلى عبد الناصر الذي لم يقبل مبادرة أينشتاين. لكن الأخير لم يستسلم وحاول أن ينقل له نفس الرسالة عبر رئيس وزراء الهند، جواهر لال نهرو، وهي المحاولة التي لم تنل نصيباً من النجاح.


رغم ذلك تواصل الدبلوماسي المصري عبد الرحمن صادق عام ١٩٥٣ مع الملحق العسكري في السفارة الإسرائيلية في باريس. بعض المصادر أشارت إلى أن المحاولة كانت تهدف إلى التوصل لاتفاق سلام بين مصر وإسرائيل. لكن مصادر إسرائيلية قالت إن المباحثات كان محاولة لمنع إعدام المتورطين في عملية "سوزانا" والتي تضمنت قيام يهود مصريين بتنفيذ عمليات إرهابية وتخريبية شملت محاولات تفجير مصالح بريطانية وأمريكية ودور للسينما من أجل الإضرار بالعلاقات الجيدة بين القاهرة وواشنطن ولندن آنذاك، وعرقلة جلاء القوات البريطانية عن قناة السويس.


حتى بعد حرب ١٩٦٧، عرض موشيه ديان اتفاقاً للسلام مع مصر مقابل انسحاب إسرائيل من سيناء. حملت العرض فدوى طوقان، والتي كتبت في مذكراتها أنها حملت عرضاً للسلام من ديان إلى عبد الناصر، حيث قابلت ديان في القدس في أكتوبر ١٩٦٨، ثم زارت مصر بعدها وقابلت جيهان السادات في منزل الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين، وعبر أنور السادات، التقت فدوى طوقان عبد الناصر ونقلت إليه رسالة ديان والتي رفضها.


تم ذكر ذلك مبادرة ديان في كتاب أحمد بهاء الدين "محاوراتي مع السادات" وفي مذكرات فدوى طوقان "الرحلة الأصعب". كما ذكر المبادرة موشيه ديان في لقائه مع السادات في اليوم العاشر من مفاوضات منتجع كامب ديفيد عام ١٩٧٨. وفق كتاب لورانس رايت "١٣ يوماً في سبتمبر"، هاجم السادات تعنت الإسرائيليين في تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في سيناء. كان ديان قد وعد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر قبل اللقاء بأنه لن يتحدث مع السادات في تفاصيل المفاوضات كي لا ينسحب السادات من كامب ديفيد. لكن ديان نسيَّ وعده وذكر السادات برفض عبد الناصر لعرض إسرائيل بإعادة سيناء بعد حرب ١٩٦٧ مقابل السلام، وقال "ماذا كان ردكم؟ ما أخذ بالقوة سوف يسترد بالقوة. ماذا كنتم تعتقدون أننا فاعلون؟ أن نجلس مكتوفي الأيدي بينما تعلنون أنكم غير مستعدين للتصالح مع وجود إسرائيل؟".


بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، كان السادات قد استطاع أن يمهد للرأي العام في الداخل خطواته نحو عقد اتفاق للسلام مع إسرائيل. فالضغوط الشعبية التي كانت قائمة قبل ١٩٧٣ بضرورة القيام بعمل عسكري لتحرير سيناء، خفت كثيراً. والعلاقة مع إدارة نيكسون وبعدها إدارة فورد من خلال هنري كيسنجر، كانت قد توطدت. 


ومن خلال الزخم الذي حصل عليه السادات في أعقاب حرب أكتوبر بفضل جهده البارع في تصوير نتيجة الحرب لجمهور خطاباته بأنها نصرٌ حاسم (مثل خطاب مجلس الشعب يوم ١٦ أكتوبر ١٩٧٣ وجملته الشهيرة "الآن أصبح للوطن درعٌ وسيف")، استطاع أن يبرر مبادرته بزيارة القدس عام ١٩٧٧، ليصبح أول زعيم مصري وعربي يلتقي في العلن بزعماء إسرائيل وجهاً لوجه، "وفي الكنيست ذاته".


بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في عام ١٩٧٩، والتي كانت إحدى نتائج عالم ما بعد حرب ١٩٧٣، انسحبت مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، وبات طريق إسرائيل نحو مغامرات عسكرية في العالم العربي خالياً من أي احتمالات لتدخل عسكري مصري. حدث ذلك خلال غزو لبنان في ١٩٨٢ أو الغارة الإسرائيلية على تونس عام ١٩٨٥ أو العمليات العسكرية في لبنان والأراضي الفلسطينية التي تكررت خلال العقود التالية على التوصل لسلام مع مصر.


أصبح الحفاظ على السلام مع إسرائيل ركيزة أساسية في التحالف المصري مع الولايات المتحدة. كما أصبحت كلمة "السلام" ودلالتها الوحيدة بأنها مع إسرائيل تحديداً، جزءاً من الخطاب الرسمي المصري منذ ١٩٧٧. ولم يكن هذا ليتحقق سوى بعد حرب ١٩٧٣.


بعد خمسين عاماً على حرب أكتوبر ١٩٧٣، تبدو عملية تلخيصها في كلمات مثل النصر الكامل أو النصر المنقوص، تبسيطاً مُخلاً في حق حدث كبير ومركب ومتعدد الجبهات وقابل للتأويل من أطرافٍ متعددة. يمكن القول إن الحرب جعلت مصر الرابح الأكبر عندما نجحت في استعادة سيناء بدون مستوطنات إسرائيلية. لكن الذي بقيَّ من الحرب في ذكراها الخمسين أنها كانت انتصاراً كاملاً لعبد الودود، الجندي المصري الذي ظل في الجيش بعد حرب ١٩٦٧ وشارك في حرب الاستنزاف لثلاث سنوات ثم في التدريب لثلاث سنوات أخرى، ثم حارب ٢٣ يوماً في أكتوبر ١٩٧٣، وحوصر مع الجيش الثالث لثلاثة أشهر أخرى!


عبد الودود الذي كتب له أحمد فؤاد نجم رسالة يقول فيها:


واه يا عبد الودود


عقولَّك وانت خابر.. كل القضية عاد


ولسا دمّ خيَّك.. مشرباش التراب


حِسّك عينك تزحزح.. يدّك عن الزناد


خليك يا عبدو راصد.. لساعة الحساب


آن الأوان يا ولدي.. ما عاد إلا المعاد


تنفضّ الشركة واصل.. وينزاحوا الكلاب


إن كنت وادّ أبوك.. تجيبلي ثار أخوك


والأهل يبلّغوك.. جميعاً السلام



*تم نشر المقال في موقع المنصة:  الأحد 8 أكتوبر 2023 






Friday 22 December 2023

قرن كيسنجر: سياسة، تاريخ، وجرائم حرب



إذا كان هناك شخص واحد فقط يمكن أن يكون رمزاً للسياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ السنوات التي تلت انتصارها في الحرب العالمية الثانية وحتى وقتنا الحاضر، فمن المرجح أن يكون هذا الشخص هو هنري كيسنجر. فالصبي الألماني الذي ترك ألمانيا قبل عام واحد فقط من الحرب العالمية الثانية، عاصر مرحلة التحول التي مرت بها الولايات المتحدة من قوة كبيرة على الساحة الدولية قبل الحرب، إلى إحدى القوتين العظميين في عالم ما بعد الحرب.


وخلال سنوات الحرب الباردة، كان كيسنجر أحد أبرز من صاغوا السياسة الخارجية الأمريكية خلال المرحلة الأكثر سخونة من الحرب الباردة، سواء على الجبهة الفيتنامية وآسيا أو في أمريكا اللاتينية أو في الشرق الأوسط. وخلال هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الحرب الباردة، تحول كيسنجر إلى عراب العلاقة مع الصين، وهو الأمر الذي استمر حتى رحيله. وبعد خروجه من البيت الأبيض ظلت آثاره في السياسة الخارجية باقية رغم اختلاف توجهات الإدارات الأمريكية المتعاقبة وانتهاء الحرب الباردة.


من المؤكد أن سنوات صبا كيسنجر في ألمانيا والتي شهدت صعوداً لهتلر وحزبه للسلطة، تركت أثراً في أسلوبه ونظرته للملفات السياسية التي عمل عليها خلال سنوات خدمته في البيت الأبيض. وحتى بعد أن أمضى خمسة وثمانين عاماً من الحياة في الولايات المتحدة، ظلت لكنته الألمانية ظاهرة في نطقه للغة الإنجليزية. 


وعندما هرب هاينز كيسنجر مع أبويه وأخيه الأصغر من ألمانيا عام 1938، أدرك مبكراً أهمية القوة والقدرة على استعراض أثرها كأداة لتحقيق مصالح الدول السياسية، وهو ما عبر عنه خلال عمله الأكاديمي بعد الحرب العالمية الثانية، بل واعتبرها أساساً نظرياً لعمله السياسي لاحقاً. وبعد هروبه مع عائلته إلى نيويورك، تغير اسم هاينز إلى هنري كيسنجر، لكنه ظل بدون جنسية لخمس سنوات قبل أن يحصل على الجنسية الأمريكية عام 1943 عندما تم استدعائه للتجنيد للاشتراك في الحرب العالمية الثانية. 


خدم هنري كيسنجر كجندي مع وحدة للاستخبارات العسكرية بسبب إتقانه اللغة الألمانية، ولم تكن خدمته خلال الحرب ضمن الخطوط الخلفية للقتال أو لأداء مهام مكتبية، بل شارك في معركة "الأردين" في الجبهة الغربية (ديسمبر 1944- يناير 1945)، والتي تعد الهجوم الألماني الأخير الكبير خلال الحرب، حيث استمرت لخمسة أسابيع وقاتل فيها أكثر من مليون جندي من فيالق الجيوش الأمريكية والبريطانية والنازية.


رغم أنه لسنوات لم يتحدث عن تجربته في أبريل 1945 عندما شارك في تحرير من تبقوا من اليهود الذين تم احتجازهم في معسكر اعتقال "آهلم"، والذي وصفه جندي أمريكي بأنه "الجحيم على الأرض"، إلا أن هذه التجربة تركت أثراً غائراً في نفس كيسنجر. فقد عمقت مشاهداته في "آهلم" من شعوره بالولاء نحو جذوره العائلية اليهودية، وفي ذات الوقت لم تؤد هذه التجربة إلى أن يكون حريصاً على حماية حقوق الإنسان في البلدان التي تحالف مع أنظمتها القمعية عندما أصبح المسؤول الأول عن السياسة الخارجية الأمريكية بعد سنوات.


"الواقعية" وعالم كيسنجر


خلال سنواته داخل البيت الأبيض لم يكن كيسنجر مجرد موظف كبير في الإدارة الأمريكية خلال الحرب الباردة. فبسبب مسيرته الأكاديمية قبل دخوله البيت الأبيض عام 1969 كمستشار نيكسون للأمن القومي، كانت لديه كتب مثل "الأسلحة النووية والسياسة الخارجية" الذي نشر عام 1957، وأبحاث عن السياسة الخارجية الأمريكية والتي صدرت في كتاب عام 1969. كما أنه آمن بأنه يجب أن يحدد أهدافاً يستطيع العمل على إنجازها خلال خدمته داخل البيت الأبيض. وقبل دخوله البيت الأبيض كان قد كتب أن "الرجال لا يتحولون إلى أساطير بما يعرفونه، أو حتى بما يحققونه، ولكن يصبحون كذلك بالمهام التي حددوها لأنفسهم."


آمن كيسنجر بمبدأ "الواقعية" realism في العلاقات الدولية، وهو المبدأ الذي يقوم على أن الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي تحتم على الدول أن تسعى لتحقيق أمنها والحفاظ على مصالحها من خلال تراكم أسباب القوة المادية والعسكرية وعقد التحالفات لتعزيز نفوذها داخل النظام الدولي. كما أن عقيدة "الواقعية" تعتقد أن أعضاء النظام الدولي وهي الدول ذات السيادة، تعمل ضمن نظام يخلو من العدالة، وبالتالي فإنها لا يجب أن تخضع للأطر الأخلاقية.



تطبيق كيسنجر لمبدأ "الواقعية" في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بدا أيضاً عندما دعم الحاكم العسكري لباكستان الجنرال يحيى خان عام 1971 خلال حملته الدموية في باكستان الشرقية التي نالت استقلالها وأصبحت بنغلاديش. كما بدا خلال دعمه للديكتاتور العسكري الجنرال أوغستو بينوشيه في انقلابه الدموي على رئيس تشيلي المنتخب سلفادور أليندي في 11 سبتمبر 1973. 


في كلا الحالتين، باكستان وتشيلي، لم يفكر كيسنجر في عدد ضحايا الجنرال خان أو الجنرال بينوشيه أو في تناقض دعم الديكتاتوريات العسكرية مع خطاب القيم الأمريكية الذي يدعو لتداول السلطة سلمياً وديمقراطياً في حالة تشيلي، وحق تقرير مصير الشعوب في حالة بنغلاديش، وذلك في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تلقب نفسها بأنها زعيمة "العالم الحر" الذي يخوض معركة مع "الكتلة الشرقية" بقيادة الاتحاد السوفيتي وفق مبادئ الحرية وحقوق الإنسان!


كما لم يعر كيسنجر اهتماماً بقيم حق تقرير المصير وحقوق الإنسان عندما وافق على خطط الرئيس الإندونيسي سوهارتو لغزو تيمور الشرقية والتي كانت قد أعلنت استقلالها في عام 1975. ولم يكترث أيضاً بقيم الديمقراطية ورفض قتل وإخفاء المعارضين عندما دعم الجنرال خورخيه فيديلا في انقلابه على الرئيسة الأرجنتينية إيزابيل بيرون عام 1976، والذي أطلق حملة دموية على معارضيه أدت إلى مقتل أو اختفاء نحو 30 ألف شخص وعرفت باسم "الحرب القذرة"!


ويمكن تلخيص نظرة كيسنجر لحق الشعوب في ممارسة الديمقراطية في جملته التي قالها عن تشيلي بعد فوز أليندي بالانتخابات: "لا أفهم لماذا يتعين علينا أن نقف مكتوفي الأيدي ونشاهد بلداً يتحول إلى الشيوعية بسبب عدم مسؤولية شعبه"! فالمصلحة الأمريكية في هزيمة الشيوعية هي هدف أكثر أهمية لدى كيسنجر من احترام خطاب القيم الأمريكي بشأن حق الشعوب في اختيار حكامها وفق آليات ديمقراطية.


كما يمكن فهم مبادرات كيسنجر الدبلوماسية وقراراته خلال عمله كمستشار للأمن القومي أو وزير للخارجية من خلال مبادئ مدرسة "الواقعية" في العلاقات الدولية. فقد سعى لتعزيز مكانة الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة من خلال مبادرته للانفتاح على الصين في بداية السبعينيات وإقامة علاقات معها، والتي اعتقد أنها سوف تعمق الخلاف السوفيتي الصيني وتدشن تعاوناً اقتصادياً وسياسياً بين واشنطن وبكين.


نجح كيسنجر في مبادرته التي توجت بزيارة نيكسون التاريخية للصين عام 1972. كما أنشأ علاقة شخصية مع الزعيم الصيني "ماو تسي تونغ" وصداقة مع رئيس الوزراء والرجل القوي في الحزب الشيوعي الصيني "تشوان لاي". ولاحقاً طور كيسنجر علاقاته مع جميع زعماء الصين وصولاً لرئيسها الحالي "تشي جين بينغ" وأصبح مستشار الصين الأشهر فيما يتعلق بالعلاقة مع واشنطن، وهو ما يفسر احتفاء الرئيس الصيني ووزير خارجيته بكيسنجر عندما زار بكين للمرة المائة في يوليو 2023، حيث تم وصفه بـ"الصديق القديم الذي تحتاج السياسة الأمريكية الحالية إلى حكمته كما تحتاج إلى شجاعة نيكسون"!


وخلال سنواته في البيت الأبيض نجح كيسنجر في أن يوثق علاقته الشخصية بالزعماء الصينيين أو بالزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف، وأن يستخدم تلك العلاقات في التأثير على مواقف البلدين تجاه النزاعات التي تعتبرها الإدارة الأمريكية هامة لمصالح الولايات المتحدة. فعل ذلك خلال حرب فيتنام كما فعل ذلك خلال حرب أكتوبر 1973.


لم يكن كيسنجر مجرد ابن آخر للمؤسسة الحاكمة في واشنطن. بل كان أحد أهم ممثليها في المجتمع الدولي خلال سنوات خدمته في إدارتي نيكسون وفورد. وهو الأمر الذي سيتطور لاحقاً كمستشار للمؤسسة الحاكمة فيما يتعلق برؤية الإدارات الأمريكية المتعاقبة لدور الولايات المتحدة في العالم وكيفية مواجهة التحديات المتغيرة، خاصةً خلال العقد الأخير في الحرب الباردة وما تلاها من سنوات تشكل نظام عالمي جديد، تهيمن فيه الولايات المتحدة على شؤون المجتمع الدولي باعتبارها القوة العسكرية والاقتصادية الأكبر على سطح الأرض.




كيسنجر والخروج من فيتنام


خلال زيارته الأولى لفيتنام عام 1965، أدرك كيسنجر أنه من الصعب أن تنتصر الولايات المتحدة في حربها الطويلة في فيتنام، وأنه من الأفضل أن تبدأ في مفاوضات مع فيتنام الشمالية من أجل الوصول إلى هدنة من خلال مفاوضات سلام في باريس. لكن بدلاً من الدعوة لإنهاء الحرب، قام كيسنجر أثناء حضوره مفاوضات باريس عام 1968 بإرسال معلومات لحملة نيكسون الانتخابية من أجل أن تستخدمها في حث وفد فيتنام الجنوبية على إفشال المفاوضات خوفاً من أن يؤدي التوصل للسلام إلى فوز الديمقراطيين بالرئاسة!


كما أن إدراكه بخسارة الحرب والذي حدث قبل دخوله الإدارة الأمريكية، لم يؤدِ إلى وقف التصعيد العسكري حين أصبح مستشاراً للأمن القومي، بل العكس هو ما حدث! فقد انخرط كيسنجر في مفاوضات سرية في العاصمة الفرنسية مع ممثلي فيتنام الشمالية، رغم اعتراضات حليفة واشنطن، فيتنام الجنوبية. وفي نفس الوقت شجع قصف كمبوديا، التي كانت مصدراً لغارات قوات الفيتكونغ الموالية لفيتنام الشمالية. 


وافق كيسنجر شخصياً على 3875 غارة على كمبوديا والتي تم قصفها من الجو بأكثر من مليوني طن من القنابل، وتسبب ذلك في مقتل مئات الآلاف ونزوح ربع سكان البلاد. مسح القصف قرى كاملة بسكانها وحيواناتها ومزارعها. يكفي أن نعلم أن حجم القنابل التي سقطت على كمبوديا بين عام 1965 وعام 1973 تجاوز ما تم إلقاؤه على ألمانيا واليابان خلال الحرب العالمية الثانية بما فيها قنبلتي هيروشيما وناجازاكي الذريتين! 


كانت استراتيجية كيسنجر في فيتنام قائمة على أن الطريق لوقف إطلاق النار ينبغي أن يمر عبر مرحلة من التصعيد العسكري الهائل في قصف مدن فيتنام الشمالية وقوات الفيتكونغ. لكن استراتيجيته لم تؤدِ إلا للمزيد من التنازلات الأمريكية في مفاوضات باريس والتي ظهرت خلال اتفاقية السلام التي تم التوصل إليها في يناير 1973. لخص جون نيغروبونتي، الدبلوماسي الأمريكي المخضرم فشل استراتيجية كيسنجر بالقول: "لقد قصفنا الفيتناميين الشماليين ليقبلوا تنازلاتنا"!


كانت الاتفاقية تنص على أن تسحب واشنطن القوات الأمريكية من فيتنام الجنوبية مقابل أن تفرج فيتنام الشمالية عن أسرى الحرب الأمريكيين، لكن ستظل الولايات المتحدة تدعم مالياً وعسكرياً فيتنام الجنوبية من أجل بقائها. بعد عامين وشهرين دخلت قوات فيتنام الشمالية سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية، وانتهت الدولة التي حاولت واشنطن الحفاظ عليها عبر أرواح أكثر من 58 ألف جندي أمريكي و313 ألف جندي فيتنامي جنوبي بالإضافة إلى 430 ألف مدني في فيتنام الجنوبية. 


النتيجة النهائية لحرب فيتنام لم تكن في صالح الولايات المتحدة، ولكن كيسنجر أعتقد أنه من خلال عمليات القصف والتصعيد العسكري في فيتنام وكمبوديا ولاوس سوف ينجح في الخروج من المستنقع الفيتنامي دون الإضرار بهيبة أمريكا كقوة عظمى في نظر أعدائها أو بسمعتها كحليف يعتمد عليه في نظر أصدقائها. العكس هو ما حدث! فمشهد الانسحاب من سايجون والذي أشرف عليه كيسنجر شخصياً كوزير للخارجية كان كارثياً. ففي العشرين من أبريل عام 1975 أمر كيسنجر سفير واشنطن في سايغون بإجلاء الأمريكيين فقط وعدم إجلاء أي شخص من فيتنام الجنوبية!




كيسنجر وحرب أكتوبر: إسرائيل أولاً


خلال سنواته الثمانية في البيت الأبيض، كان كيسنجر هو الرجل الأهم في رسم سياسة الولايات المتحدة تجاه الصراع في الشرق الأوسط. يمكن معرفة ذلك من خلال قراءة الأجزاء الثلاثة لمذكراته أو من خلال الإطلاع على الفصل الذي كتبه عن الرئيس السادات في كتابه الأخير Leadership (القيادة) والذي صدر عام 2022، أو من خلال الإطلاع على دوره في كتاب "أكتوبر السلاح والسياسة" لمحمد حسنين هيكل.


رغم أن إدارة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون قررت نقل العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة إلى مرحلة التحالف العسكري والسياسي بعد حرب 1967، إلا أن كيسنجر، عندما دخل البيت الأبيض عام 1969 كمستشار للأمن القومي للرئيس نيكسون، تعامل مع العلاقة الأمريكية الإسرائيلية باعتبارها ملفاً شخصياً ويهودياً وعائلياً. فقد كتب أنه كان يتعامل مع رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير باعتبارها خالته التي أحياناً تكون راضية عنه أو تقوم بتوبيخه عندما تشعر أنه لا يستجيب كفاية لمطالب إسرائيل.


في الأشهر السابقة على اندلاع القتال في 6 أكتوبر 1973، انخرط كيسنجر في محادثات سرية مع المصريين عبر مستشار السادات للأمن القومي حافظ اسماعيل. كانت رؤية كيسنجر للصراع في الشرق الأوسط مبنية على أمرين: الأول هو الحفاظ على أمن إسرائيل، والثاني هو اعتبار الصراع في الشرق الأوسط ساحةً رئيسية من ساحات الحرب الباردة حيث السلاح الأمريكي يواجه السلاح السوفيتي، وحلفاء واشنطن مقابل حلفاء موسكو.


في مذكراته Years of Upheaval (سنوات الاضطرابات، والتي صدرت باعتبارها الجزء الثاني من ثلاثيته الضخمة) يسرد كيسنجر تفاصيل دوره في حرب 1973 منذ أن كان نائماً في صباح السادس من أكتوبر في جناحه بفندق والدورف في نيويورك، والتي كان موجوداً بها من أجل حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. يكتب كيسنجر أن مساعده لشؤون الشرق الأدنى جوزيف سيسكو أيقظه في الساعة السادسة والربع صباحاً ليخبره أن مصر وسوريا وإسرائيل على وشك الدخول في حرب، وأن كيسنجر اعتقد وقتها أن الأطراف الثلاثة قد أخطأوا في قراءة نوايا بعضهم البعض، وأنه يمكن تجنب الحرب بينهم.


يقول كيسنجر أن سيسكو أخبره أنه تلقى رسالة عاجلة من سفير واشنطن لدى إسرائيل كينيث كيتينغ، والذي اجتمع مع رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير وأخبرته أن تحركات القوات المصرية والسورية أصبحت في وضع يسمح لها بالهجوم، وليست مناورات كما فسرتها إسرائيل والولايات المتحدة سابقاً. "ذكّرها كيتينغ بأنه قبل اثنتي عشرة ساعة فقط أكد له مسؤولو وزارة الدفاع الإسرائيلية أن الوضع ليس خطيرًا. أجابت السيدة مائير أن هذا لم يعد دقيقاً؛ أصبح الإسرائيليون الآن مقتنعين بأنه سيتم شن هجوم مصري سوري منسق في وقت متأخر من بعد ظهر ذلك اليوم. واقترحت أنه بما أن العرب سيهزمون بالتأكيد، فإن الأزمة يجب أن تكون ناجمة عن سوء فهمهم للنوايا الإسرائيلية."


طلبت جولدا من السفير الأمريكي أن تقوم واشنطن بنقل رسالة عاجلة إلى الاتحاد السوفييتي وكذلك إلى "جيران إسرائيل العرب أن إسرائيل ليس لديها أي نية لمهاجمة مصر أو سوريا." وأضاف كيسنجر أن "إسرائيل كانت تستدعي بعض قوات الاحتياط، ولكن كدليل على نواياها السلمية، توقفت عن التعبئة العامة. وسأل كيتينغ جولدا عما إذا كانت إسرائيل تخطط لتوجيه ضربة استباقية. وأكدت جولدا بشكل قاطع أن إسرائيل ترغب في تجنب إراقة الدماء. ولن يؤدي ذلك تحت أي ظرف من الظروف إلى بدء الأعمال العدائية."


ويختم كيسنجر هذه الفقرة المثيرة بالقول: "عندما أيقظني سيسكو، لم يكن هناك سوى تسعين دقيقة من السلام في الشرق الأوسط. لقد تمكنت مصر وسوريا من إخفاء استعداداتهما للحرب بمهارة كبيرة لدرجة أن الإسرائيليين، حتى في هذه المرحلة، توقعوا أن يأتي الهجوم بعد أربع ساعات من الوقت المحدد بالفعل."


ويسرد بعد ذلك كيسنجر تفاصيل اتصالاته بسفير موسكو لدى واشنطن وبوزير الخارجية المصري محمد حسن الزيات الذي كان موجوداً في نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومن المفارقات أن كيسنجر ناقش مع الزيات كيف يمكن إطلاق مفاوضات للسلام في الشرق الأوسط في اليوم السابق، وأن واشنطن قررت أن تبدأ العمل على ذلك مباشرةً بعد الانتخابات العامة الإسرائيلية التي سوف تجري يوم 30 أكتوبر. وخلال حديثهما الهاتفي الساعة السابعة صباحاً (بتوقيت نيويورك) يوم 6 أكتوبر، تأكد كيسنجر أن الزيات لم يكن على علم بأن هناك حرب على وشك أن تندلع وأن السادات لم يشارك خططه سوى مع عددٍ محدود من المسؤولين المصريين، ليس من بينهم وزير خارجيته.


وفي الساعة السابعة وخمسة وثلاثين دقيقة اتصل كيسنجر مرةً أخرى بالزيات ليخبره بتعهد إسرائيل بعدم القيام بأي هجوم أو تحرك عسكري، وأن الولايات المتحدة تضمن التعهد الإسرائيلي. لكن في الساعة الثامنة والربع صباحاً اتصل الزيات بكيسنجر ليخبره برد القاهرة بأن إسرائيل قامت "باستفزاز" مصر عندما هاجمت وحداتها البحرية وطائراتها مواقع مصرية في خليج السويس، وأن القوات المصرية تعاملت مع الموقف وتم إعلان ذلك في بيان رسمي. لم يصدق كيسنجر الزيات، ولكنه اتصل بوزير الخارجية الإسرائيلية آبا إيبان الساعة الثامنة وخمسة وعشرين دقيقة صباحاً والذي أبدى له تشككه فيما قاله الزيات لكيسنجر، ولكنه سوف يتصل على الفور بإسرائيل للتأكد.


وفي الساعة الثامنة وتسعة وعشرين دقيقة، اتصل القائم بأعمال السفارة الإسرائيلية في واشنطن موردخاي شاليف بكيسنجر ليخبره بأن الطائرات المصرية والسورية بدأت منذ نصف ساعة بمهاجمة المواقع الإسرائيلية في سيناء والجولان ولكن لا توجد معلومات لديه عن تحركات برية، وليس لديه علم بهجوم نفذته وحدات بحرية إسرائيلية على خليج السويس. وهكذا علم كيسنجر باندلاع أكبر مواجهة عسكرية بين إسرائيل ومصر وسوريا منذ ست سنوات!


لكن رغم السرية التي أحاط بها السادات موعد بدء الحرب، فإنه قرر أن يرسل لكيسنجر في اليوم الأول تأكيداً بشأن محدودية أهدافه العسكرية. في كتابه Leadership (القيادة) كتب كيسنجر: "في اليوم الأول من الحرب، أبلغني السادات، عندما كنت وزيراً للخارجية آنذاك، أن أهدافه محدودة وأنه ينوي بذل جهود لتسهيل مفاوضات السلام بعد انتهاء الأعمال العدائية. وفي اليوم الثاني للحرب أجبت: "أنت تشن حربًا بالأسلحة السوفيتية. ضع في اعتبارك أنه سيتعين عليك صنع السلام مع الدبلوماسية الأمريكية."


كان كيسنجر مدركاً أن السادات قرر أن يراهن على دور الولايات المتحدة في المنطقة كبديل للدور السوفيتي، وأن هذا يعني أنه فور توقف القتال، سوف يكون السادات مستعداً للانخراط في الجهود الأمريكية للتوصل لتسوية مع إسرائيل. وبالتالي سعى كيسنجر لتقوية موقف إسرائيل خلال الحرب من خلال الجسر الجوي الأمريكي غير المسبوق، ومن خلال العمل على مدار الساعة وبأقصى جهد في التواصل مع موسكو من أجل ضمان التوصل لوقف لإطلاق النار في التوقيت المناسب وفق الحسابات العسكرية الإسرائيلية.


وسواء تم الإطلاع على رواية كيسنجر للحرب والمفاوضات التي تلتها في الفصول الثلاثة الكبيرة التي احتلتها ضمن مذكراته، أو تمت قراءة النسخة المختصرة من روايته في فصله عن السادات ضمن كتابه الأخير Leadership، فإنه من الممكن فهم الرؤية السياسية التي نظر بها كيسنجر للصراع في الشرق الأوسط، والتي تتلخص في توظيف السياسة الخارجية للولايات المتحدة لضمان أمن إسرائيل، وذلك من خلال رعاية مفاوضات فض الاشتباك بين القوات المصرية والإسرائيلية وبين القوات السورية والإسرائيلية في أعقاب الحرب، أو رعاية مؤتمرات للسلام مثل مؤتمر جنيف للسلام في ديسمبر 1973.


ولتحقيق هذا الهدف، عمل كيسنجر على فصل المسارات التفاوضية بين الدول العربية وبين إسرائيل. وفي مذكراته كتب أن مؤتمر جنيف كان وسيلة لتمكين كل طرف من اتباع مسار منفصل، والذي أدرك أنه في الحالة المصرية كان يعني تصميم السادات "على عكس تحالف مصر مع الاتحاد السوفيتي وإقامة علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة. كانت هذه مناورة دقيقة ومحفوفة بالمخاطر. وحين يأخذ موقفاً وسطاً، كان يخاطر بأن يكون بعيداً جداً عن الاتحاد السوفييتي بحيث لا يتمتع بدعمه الدبلوماسي، لكنه ليس قريباً بما يكفي من الولايات المتحدة كي تدافع عن الموقف المصري." 


قرأ كيسنجر جيداً معضلة السادات بعد وقف إطلاق النار والتي وصفها بدقة عندما كتب أن السادات "واجه معضلة مماثلة في علاقاته مع إخوانه العرب. فالسادات لن يتمكن من تحقيق هدفه أبداً إذا سمح لسوريا باستخدام حق النقض على سياسته؛ ولكن إلى أن يبدأ عملية السلام الخاصة به، كان السادات في حاجة إلى التهديد بالعودة للعمل العسكري كورقة مساومة، وهو التهديد الذي لم يكن له أي مصداقية في غياب تحالفه مع سوريا. كان السادات معلقاً بين القوى العظمى، وحذراً من سوريا ومع ذلك معتمداً عليها في المواجهة، فقد رأى في مؤتمر جنيف شبكة أمان، ومنتدى يمكنه اللجوء إليه إذا فشلت كل الطرق الأخرى."


لأن كيسنجر كان مرجعاً أساسياً لكل الدبلوماسيين الأمريكيين الذين عملوا على ملف عملية السلام في الشرق الأوسط ضمن الإدارات الأمريكية التي أعقبت خروجه من البيت الأبيض، فإن تكتيكات كيسنجر التي اتبعها خلال وبعد حرب أكتوبر 1973 مثل "الدبلوماسية المكوكية" التي دشنها برحلاته بين القاهرة وتل أبيب ودمشق، والحرص على المسارات التفاوضية المنفصلة بين العرب وإسرائيل، يمكن رؤية تطبيقاتها في كل مفاوضات السلام التي جرت منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991.




الأب الروحي للتناقض الأمريكي


في خريف عام 2012، وخلال المحاضرة الأولى لي في جامعة كينجز كوليدج في لندن، ذكر المحاضر في قسم دراسات الحرب عدداً من مزايا الحصول على ماجستير من هذا القسم وهذه الجامعة بالذات. أهم المزايا من وجهة نظره أن سبعة ممن حصلوا على الماجستير العام الماضي حصلوا على وظائف في شركة الاستشارات الدولية Kissinger Associates في نيويورك والتي يملكها هنري كيسنجر!


رغم اقترابه من التسعين آنذاك، كان كيسنجر لا يزال محتفظاً بحضوره العالمي من خلال علاقاته المتينة بزعماء الحزب الشيوعي الصيني المتعاقبين منذ زيارته الأولى للصين في يوليو 1971، أو من خلال الاستشارات التي قدمها لكل الرؤساء الأمريكيين منذ أن عمل مستشاراً للأمن القومي لريتشارد نيكسون ثم وزيراً للخارجية في إدارته بالإضافة لمنصبه كمستشار للأمن القومي، وهو الترتيب الذي استمر مع الرئيس جيرالد فورد حتى نوفمبر 1975، ليتفرغ بعدها كوزير للخارجية حتى انتهاء ولاية فورد. كما ظل كيسنجر حاضراً على الساحة الدولية من خلال مقالاته وكتبه والتي صدر أحدثها في عام 2022.


لا يمكن اختصار كيسنجر في مناصبه الرسمية داخل إدارتي نيكسون وفورد بين عام 1969 وعام 1977. فالرجل لم يكن وزيراً آخر للخارجية مثل مايك بومبيو أو ريكس تيلرسون أو جون كيري أو مستشاراً آخر للأمن القومي مثل جاك سوليفان أو جون بولتون أو سوزان رايس. كان كيسنجر أباً روحياً لعدد من الدبلوماسيين والعاملين في دوائر السياسة الخارجية الأمريكية، والذين آمنوا بمنهجه في الحفاظ على المصالح الأمريكية ولو على حساب خطاب القيم الأمريكية المعلنة وأهمها حقوق الإنسان وتداول السلطة ديمقراطياً وحق تقرير المصير.


في المناظرات الرئاسية التي سبقت انتخابات 2008، استشهد جون ماكين بكيسنجر من أجل إثبات وجهة نظره فيما يتعلق بالتعامل مع إيران. ومن المدهش أن باراك أوباما استشهد أيضاً بكيسنجر خلال نفس المناظرة لإثبات صحة وجهة نظره! أما هيلاري كلينتون، والتي عارضت قرار كيسنجر بقصف كمبوديا عندما كانت طالبة حقوق في جامعة "يال"، فقد حصلت على مشورة كيسنجر عندما كانت وزيرة للخارجية خلال إدارة أوباما الأولى!


كان كيسنجر قادراً بعد أن ترك الإدارة الأمريكية في يناير 1977 مع انتهاء ولاية جيرالد فورد الرئاسية أن يعيد صياغة نفسه باعتباره كاهناً ومنظراً لشؤون السياسة الخارجية الأمريكية، ومستشاراً ضليعاً في كل ما يتعلق بالسياسة الدولية وتحديات القرن الجديد والقوى المرشحة للصعود فيه، وأبرزها الصين، والتي كتب عنها كتاباً تجاوزت صفحاته الستمائة عام 2011.


امتلك كيسنجر مهارة أن يكون حاضراً حتى يومه الأخير دون أن يشعر بالندم على اشتراكه في صياغة وتنفيذ قرارات وسياسات أدت إلى جرائم حرب وانتهاكات مروعة لحقوق الإنسان في كمبوديا وتشيلي والأرجنتين وبنجلاديش وتيمور الشرقية، على سبيل المثال لا الحصر! كان كيسنجر تعبيراً عن التناقض بين الولايات المتحدة التي تتبنى خطاباً عالمياً يتحدث عن ضرورة السعي للحفاظ على قيم حقوق الإنسان والديمقراطية والحق في تقرير المصير، وبين سياساتها البراجماتية المشغولة بتحقيق مصالح واشنطن ولو على حساب خطابها الخاص بالقيم!


  • تزامن كتابة هذا المقال مع الذكرى الأولى لرحيل صديقي محمد أبو الغيط. أتذكره وأنا أكتب عن كيسنجر، مفتقداً نقاشاتنا عن الصحافة، التاريخ، والناس. دُمتَ حياً بيننا بذكراك يا صديقي الحكيم.

Thursday 16 November 2023

السادات، كارتر، وبيجن: الطريق إلى كامب ديفيد يمر عبر القدس


*كُتِبَ هذا المقال لصحيفة المصري اليوم والذي نشرته بعد حذف بعض العبارات يوم 28 مارس 2019 بمناسبة الذكرى الأربعين لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.

في يناير ١٩٧٧ دخل جيمي كارتر البيت الأبيض. وفي اليوم الأول له داخل المكتب البيضاوي أعلن كارتر أن السلام في الشرق الأوسط أولوية بالنسبة له. بدا ذلك أمراً غريباً وساذجاً لمساعديه وعلى رأسهم نائبه والتر مونديل. فكل الرؤساء الأمريكيين السابقين فشلوا في حل أزمة الشرق الأوسط أو فرض تسوية للسلام على أطراف الصراع العربي الإسرائيلي. وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر والذي كان قد خدم مع الرئيسين السابقين نيكسون وفورد وتولى ملف الشرق الأوسط لفترة طويلة، حذر كارتر من أنه لا ينبغي لأي رئيس أمريكي أن يكون طرفاً في عملية تفاوض غير محسومة النتائج. لكن بالنسبة لكارتر كان قراره بالعمل من أجل السلام مهمة "إيمانية" وليست سياسية

خلال الأشهر اللاحقة قابل كارتر عدداً من الزعماء العرب. لكنه كان مأخوذاً بشخصية الرئيس المصري أنور السادات الذي وجد فيه زعيماً جريئاً قادراً على صنع السلام في منطقة مضطربة ومشتعلة مثل الشرق الأوسط.  

بعد بدء ولاية كارتر الأولى بأحد عشر شهراً، وتحديداً في التاسع عشر من نوفمبر، فاجأ السادات العالم بهبوطه في القدس والاجتماع مع القادة الإسرائيليين وإلقاء خطاب في الكنيست أعلن فيه آرائه حول التوصل لاتفاق سلام شامل بين العرب وإسرائيل. كانت قد مرت مدة زمنية مماثلة منذ انتفاضة الخبز في ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧

كان السادات بحاجة لعملٍ بجرأة وجموح زيارة القدس كي يتخطى إحساسه الشخصي بالمرارة من الانفجار الشعبي الذي اجتاح مدن مصر من شمالها إلى جنوبها رداً على رفع الدعم عن السلع الغذائية الرئيسية وارتفاع أسعار الغذاء خمسين في المائة. حققت الزيارة هدفها الداخلي. فقد وجد السادات استقبالاً شعبياً في القاهرة، جعله يتجول بموكبه لساعة ونصف وهو يحيي الجماهير من سيارة مكشوفة، وفق الصور التلفزيونية التي نقلتها قناة "إن بي سي" الأمريكية. كما انتقل النقاش العام في مصر من الانشغال بالأوضاع الاقتصادية المتردية إلى التنبؤ بقدرة السادات على تحقيق السلام وربما مجيء الرخاء الذي وعد به أكثر من مرة في خطاباته

السبب الثاني الذي جعل السادات يذهب إلى القدس هو رغبته في تحقيق أي تقدم على مسار إعادة بقية الأراضي المصرية المحتلة، بعد أن أطلقت حرب ١٩٧٣ شرارة البدء في تغيير الموقف على الأرض بين مصر وإسرائيل لكن دون أن تحسم مسألة تحرير سيناء بالكامل لصالح مصر. في نوفمبر ١٩٧٧ كان قد مر على انتهاء العمليات القتالية في حرب ١٩٧٣ أربع سنوات. وخلال تلك المدة لم تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل من أجل إجراء تسوية حقيقية وعادلة في المنطقة. فقد كانت واشنطن منشغلة برئيس يتجسس على خصومه السياسيين، ثم رئيس غير منتخب، بسبب أزمة استقالة نيكسون. وصل السادات إلى قناعة بأنه من أجل أن يستكمل تحرير الأراضي المصرية، لابد له أن يذهب إلى إسرائيل مباشرةً، بعد أن قطع علاقاته مع حليفه السوفييتي ووضع "تسعة وتسعين في المائة من أوراق اللعب" في يد واشنطن التي لا تريد الضغط على إسرائيل

بدا للسادات أن السبيل الوحيد للنجاة هو القيام بقفزة دراماتيكية جامحة مثل زيارة القدس، والتي تم وصفها في حينها من الإعلام الأمريكي بأنها مثل الهبوط على سطح القمر! وفق أحمد بهاء الدين في كتابه "محاوراتي مع السادات" فإن الرئيس الراحل كان قد أدرك مغزى الرسالة التي أرسلها موشيه دايان إلى جمال عبد الناصر بعد حرب عام 1967 عبر قدري حافظ طوقان، عندما طلب منه وزير الدفاع الإسرائيلي أن يبلغ عبد الناصر برغبة إسرائيل في التفاوض المباشر مع مصر في أي مكان وسراً أو علناً ولكن دون وسيط لأن السوفييت لن يسمحوا للمصريين بالتفوق العسكري على السلاح الأمريكي والأمريكيين لن يستطيعوا الضغط على إسرائيل، وأن إسرائيل وحدها هي من تستطيع تغيير الوضع على الأرض

في العالم العربي أحدثت زيارة السادات للقدس زلزلاً بحجم دور مصر العربي خلال العقود الثلاثة السابقة. قبل ذلك التاريخ بأربع سنوات كانت القوات المصرية تخوض معارك ضارية مع القوات الإسرائيلية في الضفة الشرقية لقناة السويس وذلك في الحرب الرابعة بين مصر وإسرائيل. وكانت سوريا حليفة لمصر في العمل العسكري في الوقت الذي ساندت فيه بقية الدول العربية مصر وسوريا بالسلاح والمال والدعم الدبلوماسي. لم تستطع الدول العربية التي سارت مع السادات في طريق الحرب أن تسير معه خلال قفزته المفاجئة في الهواء! فلم تكن هناك ضمانات من أن زيارة القدس سوف تحرر بقية الأراضي العربية المحتلة بعد حرب ١٩٧٣

لذا عندما ذهب السادات الى منتجع كامب ديفيد الرئاسي في الولايات المتحدة من أجل التفاوض حول السلام بين مصر وإسرائيل، كان حريصاً على أن يتفاوض أيضاً حول الضفة الغربية وقطاع غزة وبالطبع القدس، من أجل أن ينفي اتهامات العرب له بأنه سعى لصلحٍ منفرد مع إسرائيل

كارتر: الرئيس المؤمن! 

في عامه الأول في الرئاسة، قابل كارتر رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين الذي بدا له غير متحمس لأي خطوة باتجاه السلام، حتى أن كارتر وصف الحديث معه حول السلام مثل "التحدث إلى سمكة ميتة"! خرج رابين من الحكم بعد فضيحة مالية وأتى مناحيم بيجن الى رئاسة الحكومة الإسرائيلية

من خلال حوار أجراه بيجن مع قناة تلفزيونية أمريكية، اكتشف كارتر أن رئيس الوزراء الجديد أبعد ما يكون عن صانع السلام! فهو لا يعترف بقرار الأمم المتحدة ٢٤٢ حول الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد حرب عام ١٩٦٧، والذي تم اعتباره أساساً لأي عملية سلام في الشرق الأوسط. كما أنه لا يريد الانسحاب من سيناء أو الضفة الغربية وغزة ويعتبرها أراضٍ "محررة" وليست محتلة. وعند سؤاله ما إذا كانت آراؤه ستضعه في مواجهة مع رؤية كارتر للسلام في الشرق الأوسط، كان رد بيجن أنه يثق في أن كارتر رجلٌ "يحفظ الإنجيل عن ظهر قلب وبالتالي فهو يعرف من هم أصحاب الأرض الحقيقيين." 

بحلول يوليو عام ١٩٧٨ بدا لكارتر أن عملية السلام تحتاج الى معجزة. تصور كارتر أن المعجزة يمكن أن تحدث في منتجع كامب ديفيد من خلال دعوة السادات وبيجن للاجتماع هناك والبقاء حتى التوصل لاتفاق! كان كارتر وفق مساعديه يمتلك شخصيةً بسيطة غير معقدة

لم يكن كارتر داهيةً سياسياً مثل ريتشارد نيسكون أو زعيماً صاحب كاريزما ساحقة مثل جون كينيدي أو رجل دولة عنيد مثل ليندون جونسون. كان فلاحاً بسيطاً متديناً من ولاية جورجيا، قاده الحظ إلى الترشح للانتخابات الرئاسية أمام أمة أمريكية مهزوزة من فضيحة سياسية بحجم ووترجيت، أدت إلى استقالة الرئيس الذي كذب أكثر من مرة أمام الجماهير من أجل التغطية على فضيحة التجسس على منافسيه السياسيين من الحزب الديمقراطي. خطاباته الإيمانية مكنته من تحقيق فوز بسيط على منافسه في انتخابات عام ١٩٧٦، الرئيس غير المنتخب جيرالد فورد، والذي تولى السلطة خلفاً لنيكسون بعد فضيحة ووترجيت

وكما قادت الأوضاع المتردية للحياة السياسية الأمريكية كارتر إلى البيت الأبيض، حدث الأمر ذاته مع بيجن الذي كان قد قضى حياته السياسية كلها في المعارضة، ولم يكن متوقعاً له أن يصل إلى الحكم لولا الشرخ الذي أحدثته حرب 1973 في ثقة المجتمع الإسرائيلي في زعمائه السياسيين وجعلت الساحة مهيأة لانتخاب رجلٍ لا يؤمن بالمرونة أو السلام أو الدبلوماسية وينتمي إلى جيل الصقور الذين يؤمنون أن إسرائيل إن تنازلت مرة لجيرانها فإنها تساهم في نهايتها كدولة.  

الذهاب إلى كامب ديفيد من أجل الفشل! 
   
وفق كتاب لورانس رايت حول المفاوضات في كامب ديفيد ، "ثلاثة عشر يوماً في سبتمبر"، فإن السادات قبل تلبية دعوة كارتر بالذهاب الى كامب ديفيد ، اعتبر عملية التفاوض مع بيجن مسألةً بسيطة تقوم على تقديم مصر مقترحها من أجل السلام وهو ما سترفضه إسرائيل وفق توقعه، وحينها يتدخل كارتر ويضغط على بيجن لقبول العرض المصري، فيقبل بيجن وتكون مصر قد حققت إنجازاً هائلاً. أما إذا رفض بيجن فإن مصر وفق تصور السادات لن تخسر شيئاً بل إنها ستكسب علاقةً أوثق مع الولايات المتحدة وستكون قد كسبت أيضاً الرأي العام الدولي! والأهم أن السادات اعتقد أن فشل المفاوضات في كامب ديفيد سوف يؤدي إلى سقوط بيجن في الداخل الإسرائيلي ورحيله عن الحكم

أما بيجن فقد قرر تلبية دعوة الرئيس الأمريكي من أجل أن يعترض على أي مقترحات للسلام وبالتالي يعزز موقفه في الداخل الإسرائيلي. كما أنه لم يكن مستعداً للتنازل عن احتلاله لسيناء أو الضفة الغربية أو قطاع غزة أو مرتفعات الجولان وبالطبع القدس. كان بيجن مقتنعاً أن العرب لن يستطيعوا تكرار حرب ١٩٧٣ في غياب مصر، وأن مصر لن تحارب في غياب دعم السوفييت، وأن الولايات المتحدة لن تدعم مصر عسكرياً أو سياسياً في مواجهة إسرائيل. وخلال الجلسات الأولى بين الوفد الأمريكي والمصري في كامب ديفيد ، أدرك المصريون أن الإسرائيليون لن يقدموا أي تنازلات، وسيعترضون على المقترحات المصرية بخصوص السيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة أو الانسحاب من سيناء، ولن يقدموا حتى بديلاً للمقترحات المصرية

كانت ترتيبات المفاوضات شديدة الغرابة. فهي مباشرة وغير مباشرة في ذات الوقت! حيث في الصباح يلتقي السادات مع بيجن في حضور كارتر، وعند الظهر يجتمع الوفد المصري مع الأمريكي ثم الأمريكي مع الإسرائيلي، أو العكس، في مفاوضات غير مباشرة، يكون الأمريكيون فيها برئاسة نائب الرئيس مونديل أو وزير الخارجية فانس، وسطاء بين الوفدين

والأغرب من ترتيبات المفاوضات ما جرى خلالها من مواقف كشفت عن انفصال السادات عن وفده المرافق له والذي ضم مجموعة من أبناء وزارة الخارجية وعلى رأسهم وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل وأسامة الباز وعبد الرؤوف الريدي وبطرس غالي وأحمد ماهر ونبيل العربي (وزراء الخارجية فيما بعد)، بالإضافة إلى نائب رئيس الوزراء حسن التهامي، الذي اكتشف الأمريكيون أنه معزول داخل الوفد، وأنه الشخص الوحيد المتفائل بطريقة السادات التفاوضية مع بيجن. فيما كشف باقي أعضاء الوفد المصري وعلى رأسهم محمد إبراهيم كامل لنظرائهم الأمريكيين أنهم غير متأكدين من قدرة السادات على الوفاء بما يعد به بيجن في الصباح حول الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس في ظل عدم حصوله على تفويض من الفلسطينيين أو الأردنيين أو السعوديين

كما اكتشف الوفد الأمريكي خلال التفاوض أن السادات لا يقوم بإخبار وفده بما يجري من محادثات بينه وبين بيجن وأنهم، أي الأمريكيون، كانوا يبلغون المصريين بما اتفق عليه السادات! بل أن أحمد بهاء الدين يذكر أن السفير الأمريكي في مصر هيرمان إيلتس روى له أن كارتر وبخه أكثر من مرة لأنه حصل منه على تصور عن ما الذي سيرفضه السادات، لكن كارتر كان يفاجئ بأن السادات وافق على ما كان متصوراً أنه سيرفضه

بيجن الرافض لكل المقترحات! 

وخلال المفاوضات بدأ السادات جلساته المباشرة مع بيجن بالإصرار على الانسحاب الكامل من سيناء وعلى إيجاد حل للفلسطينيين يتضمن حق تقرير مصيرهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى أن تكون القدس عاصمة لكل الأديان تحت إشراف دولي. لكن بيجن رفض كل هذه المقترحات وتحديداً الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة أو تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في سيناء. وبدا أن السادات يريد الحصول على صفقة تضمن له فرض السيادة المصرية على سيناء بالكامل والعودة إلى العالم العربي، فيما بيجن حريصٌ على إفشال التفاوض من خلال التركيز على التفاصيل

وكادت المفاوضات أن تفشل أكثر من مرة، وفي كل مرة يتدخل كارتر بشخصية الفلاح الطيب البسيط المعاتب كي يقول للسادات إن انسحابه من كامب ديفيد يعني قيام حربٍ عالمية ثالثة! أو أن انسحاب السادات سوف تعني له طعنة غادرة من أخ وصديق! كان كارتر قد أمضى أكثر مما يجب في المنتجع الرئاسي بعيداً عن مقر الحكم في واشنطن، وكانت أجهزة الحكومة الأمريكية تتساءل عن متى يعود الرئيس من كامب ديفيد ليمارس مهام عمله في إدارة شؤون البلاد! بدا المشهد غريباً للأمريكيين. فرئيسهم منشغل بمحاولة إيجاد تسوية بين مصر وإسرائيل دون أن يحصل على نتائج فيما البلاد تخوض حرباً باردة مع الاتحاد السوفيتي.  

أما بيجن فأدرك أن التعنت في الموقف من الانسحاب من سيناء سوف يؤدي إلى تنازلات من السادات في ملفات الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. فالسادات كان مصمماً على الحصول على السيادة الكاملة على سيناء وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية بأي ثمن

واللافت أن موقف بيجن الرافض للانسحاب من سيناء في بداية التفاوض تغير لاحقاً بعد أن أدرك أن الحصول على تنازلات من السادات حول الأراضي الفلسطينية المحتلة سوف يؤدي إلى تثبيت فك الارتباط بين مصر والدول العربية لمدة طويلة، وهو ما سيعني نصراً استراتيجياً لإسرائيل وضمانةً على ألا يتكرر التنسيق العسكري والسياسي بين سوريا في الشمال ومصر في الجنوب كما حدث في حرب ١٩٧٣

في اليوم الحادي عشر من المفاوضات كان كارتر قد أنفق من وقته أكثر مما ظن في البداية، وأكثر من قدرته على البقاء بعيداً عن واشنطن. أخبر الرئيس الأمريكي نظيره المصري ورئيس الوزراء الإسرائيلي أنه ينوي إنهاء عملية التفاوض بعد يومين وأن على الوفدين أن يتقدما برؤيتهما للتوصل إلى اتفاق تسوية وإلا فإنه سيعلن فشل القمة وتحميل الأطراف المشاركة مسؤولية فشل المفاوضات
وبعد أن اجتمع كارتر مع السادات، اجتمع الرئيس المصري بأعضاء وفده، والذين اجتاحهم قلقٌ عميق وتوتر من أن السادات سوف يقدم تنازلات غير مقبولة ومن بينها عدم التوصل لاتفاق حول القدس أو الأراضي الفلسطينية المحتلة، والأخطر أن يقبل بالمقترح الأمريكي الخاص بإعادة سيناء كاملة إلى السيادة المصرية اسمياً ولكن منزوعة السلاح وتحت إشراف قوات دولية

"كلكم سباكون!" 

بدا السادات سعيداً بالاتفاق الذي توصل إليه مع كارتر وقال لوفده إنه مطمأن إلى أن الرئيس الأمريكي يقف إلى جانب الموقف المصري وأنه مستعد للموافقة على أي ورقة يكتبها كارتر دون حتى أن يطلع عليها! ثم قال لهم إنه لا داعي للخوف لأن أي اتفاقية بين مصر وإسرائيل سوف تحتاج موافقة من مجلس الشعب المصري ومن الكنيست وبالتالي فهي غير ملزمة إلى حين موافقة البرلمان عليها

أدرك أعضاء الوفد وتحديداً محمد إبراهيم كامل أن كارتر نجح في الحصول من السادات على كل ما أراده بيجن دون أن يحصل المصريون في المقابل على ضمانات حقيقية للانسحاب الإسرائيلي من سيناء، بالإضافة إلى تثبيت عزل مصر عن محيطها العربي لتوصلها إلى صلحٍ منفرد مع إسرائيل، والذي كان قد حاول السادات نفيه في بداية المفاوضات

التقى محمد إبراهيم كامل بالسادات الذي أطلعه على ورقة من كارتر تحمل اسم "إطار للسلام". بدا السادات منتشياً أمام وزير خارجيته بأنه حصل على ورقة بخط يد الرئيس الأمريكي حول التوصل لتسوية سلام بين مصر وإسرائيل، واعتبر ذلك مكسباً ضخماً. فيما شكك كامل في "مكسب" السادات وبدأ في التفكير في الاستقالة

أما على الجانب الإسرائيلي فإن بيجن تعرض لضغوط من وفده وتحديداً من عيزرا وايزمان للموافقة على تقديم تنازلات فيما يتعلق بسيناء. كان بيجن يخشى من أن يقوم كارتر بالذهاب إلى الكونغرس وإعلان مسؤولية بيجن عن فشل المفاوضات. في النهاية اتصل بيجن بمهندس مشروع المستوطنات الإسرائيلية الجنرال أرييل شارون وطلب منه رأيه حول تفكيك المستوطنات في سيناء. عندما أخبر شارون بيجن بأنه لا يوجد مانع عسكري من تفكيك المستوطنات، زادت الضغوط من وايزمان على رئيس الوزراء من أجل القبول بتقديم تنازلات حول سيناء.  

في اليوم الثالث عشر بدأ الأمريكيون في الترتيب لإعلان التوصل لاتفاق حول إطار للسلام بين مصر وإسرائيل واتفاق آخر اعتبره الإسرائيليون غير ملزم حول إطار للتوصل لاتفاق حول الأراضي الفلسطينية. كان كامل قد استقال، لكن السادات طلب منه تأجيل الإعلان عن قراره إلى ما بعد الرحيل عن الولايات المتحدة. وافق كامل لكنه أخبر الأمريكيين الذين أدركوا أن الاتفاق صنع شرخاً داخل الوفد المصري بين الرجل الأول والثاني

كان السادات قد اجتمع مع أعضاء وفده وأخبرهم بالاتفاق، لكن نبيل العربي، المستشار القانوني للوفد، طلب من السادات عدم التوقيع لأن الاتفاق يتضمن التزامات عديدة على مصر دون أن يكون هناك ضمانة بالانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية. لكن السادات قال لنبيل العربي أن كل ما قاله الآن قد دخل من أذن وخرج من الأخرى لأن "كلكم (أعضاء الوفد) مجرد سباكين! لا تعرفون ماذا تفعلون! أنا رجل دولة! أنا أعرف هدفي. أريد أن أحرر أرضي. لو لم أفعل ذلك فإن أحفادكم سيقاتلون في سيناء، وستكون هناك حروبٌ قادمة." 

أدت ضغوط كارتر في النهاية على السادات وبيجن من أجل التوصل إلى تسوية سلمية للصراع بينهما، إلى التوصل إلى اتفاقية إطارية لإيجاد سلام بين مصر وإسرائيل، واتفاقية إطارية أخرى لإيجاد سلام في الشرق الأوسط، والتي تناولت الأراضي الفلسطينية المحتلة دون حضور الفلسطينيين، ولم تكن ملزمة لإسرائيل وبالتالي لم تسفر عن معاهدة سلام مثل التي توصلت إليها مصر وإسرائيل في السادس والعشرين من مارس عام 1979.